في مساء يوم الثَّالث من الشَّهر الجاري، أشعلت عدَّة أعيرة ناريَّة، إبَّان نقاش متصاعد بين مسؤولين عن” اقتصاديَّة” أحرار الشَّرقيَّة في عفرين، وأشخاص ينتمون إلى فرقة الحمزة ويقطنون مع عوائلها في ذات الشَّارع الَّذي يقع فيه مبنى الاقتصاديَّة، معركة لم تنته، حتَّى حصدت أرواحًا وممتلكات في المدينة.
و “الاقتصاديَّة” في عرف بعض الفصائل، مكتب يعنى بإدارة مشروعات الفصيل في منطقة إنشائه، لكنَّ فصائل أخرى طوَّرت هذا المفهوم، ليصبح مكتبًا محميًّا بقوَّة العسكر، يجد الذَّرائع والمسوّغات للاستيلاء على الأملاك العامَّة والخاصَّة، ويرتبط بقائد الفصيل بالمباشر، ولا يخضع إلى أيِّ جهة رقابيَّة.
عادة، قبل أيَّ اقتتال داخليّ، تحدث مشادَّةً كلامية، وتبقى في إطار المشادَّة، حتَّى يتدخَّل العقلاء، وتنتهي بجلوس الطَّرفين على طاولة الحوار، أو أن يقدِّم أحد الطَّرفين على إطلاق عيار ناريّ، يكون كفيلًا بإعلان حرب لا تنتهي حتَّى تشعل أتونها المنطقة برمَّتها. قبل يوم واحد فقط من ذلك الاقتتال، كانت الأجواء متوتِّرةً بسبب خلاف بيِّن ذات” الاقتصاديَّة” أشخاص آخرين يقطنون مع عوائلهم في سكن مدنيّ بجوار مبنى الاقتصاديَّة، إلَّا أنَّ المشكلة تمَّ حلُّها قبل أن تتحوَّل إلى صراع مسلَّح. قد يلوِّح، للوهلة الأولى، أنَّ هذا الصِّراع فصائليّ، هدفه توسيع نفوذ فصيل على حساب آخر، غير أنَّ المتتبِّع لسياق ما يجري، لا يعجزه معرفةً أنَّ الهدف الاستراتيجيَّ، هو اقتصاديّ بحت، ولا أهداف غير ذلك.
أهمَّ من الحال المزرية الَّتي يعاني منها ملَّاك تلك المنطقة، هي الذَّرائع والاتِّهامات الَّتي تطلهم لتبرير الاستيلاء على ممتلكاتهم، وتلك الذَّرائع قد تشكِّل خطرًا على أمنهم وحياتهم، وحتَّى على عوائلهم، فقد تخطَّى بعض القادة اتِّهام الانتماء إلى نظام الاستبداد والإجرام، أو إلى الأحزاب الإرهابيَّة، لتصبح الاتِّهامات أنَّ بعض الأراضي في مدينة عفرين قد اشترتها إسرائيل بأموالها، وهذا جلُّ ما استفاد منه أحد القادة العسكريِّين بعد حرب إسرائيل الوحشيَّة على مدنيِّي قطاع غزَّة.
لقد أصبحت منطقة عمليَّات غصن الزَّيتون بحاجة إلى حلول جذريَّة، تنهي تلك التَّجاوزات الَّتي وقعت بها بعض الفصائل، لاسيَّما أنَّها ما زالت تحت المجهر، وينتظر المتربِّصون بها أدنى خطأ ليصنعوا منه حدث جلل، وعلى اعتبار أنَّ التَّنوُّع العرقيَّ فيها هو مِيزة يمكن استثمارها لإبراز التَّنوُّع الَّذي تبنَّتها الثَّورة السُّوريَّة منذ انطلاقها، إلَّا أنَّ الانحرافات الَّتي نشهدها اليوم تحول دون ذلك. إنَّ ما يجري تخطَّى قضيَّة الإساءة إلى مكوَّن أو عدَّة مكوِّنات، أو حتَّى تجاوزات بحقِّ السُّكَّان المحلِّيِّين أو المهجَّرين، بل هو إساءة لتاريخ امتدَّ عمره لأكثر من مئة عام، كيف ذلك؟
من المعروف – على سبيل المثال لا الحصر – أنَّ ناحية راجو التَّابعة لمنطقة عفرين كانت تحظى بأهمِّيَّة إستراتيجيَّة كبيرة إبَّان الحرب العالميَّة الأولى (1914 – 1918) وحرب الاستقلال التُّركيَّة، وكانت إحدى أهمِّ الشَّواهد على التَّلاحم بين السُّكَّان المحلِّيِّين والجيش العثمانيِّ السَّابع لصدِّ هجوم قوَّات الاحتلال البريطانيَّة، حتَّى إنَّ الزَّعيم التُّركيَّ “مصطفى كمال أتاتورك” كان قد اختار من راجو مقرًّا لقيادته وسكنًا له هاجمت بريطانيا عفرين عام في عشرينيَّات القرن الماضي، وأقدمت على احتلالها بصورة غير مبرَّرة ولا مشروعةً، منتهكةً فقرات “هدنة موندروس” والقانون الدَّوليُّ.
أمَّا اليوم، فقد أصبحت تلك النَّاحية مضرب مثل للتَّجاوزات بحقِّ المدنيِّين وتغوُّل” الاقتصاديَّات” على أصحاب الأملاك والأموال، وذاع صيتها منطقة تمنع القوَّة المسيطرة فيها الصِّناعيِّين من فتح مشروعات إلَّا بعد إقرار نسبة من الأرباح لها بواسطة “اقتصاديَّة الفصيل” كما ذاع صيتها منطقة تمنع التُّجَّار من العمل، لاسيَّما في موسم الزَّيتون، إلَّا بواسطة الاقتصاديَّة أيضًا.
حتَّى نحمي تلك المنطقة من أخطار المتربِّصين بها، ونحمي تاريخها المشترك، لابدّ من إجراءات جدِّيَّة وعاجلة، على رأسها إلغاء اقتصاديَّات الفصائل ومنعها من العمل، وتسليم إدارة الأملاك العامَّة إلى المؤسَّسات الرَّسميَّة المعنيَّة بهذا الأمر، ومن ثمَّ إخراج كافَّة مقرَّات الفصائل العسكريَّة من داخل المدن والنَّواحي وتسليم مهمَّة حفظ الأمن للشَّرطتين المدنيَّة والعسكريَّة، ومنع دخول المدن بالسِّلاح للعسكريِّين الأفراد الَّذين يسكنون في المدن، وأعتقد أنَّ الوقت قد حان لذلك.
من ناحية ثانية، يدرك الجميع أنَّ قسم كبير من الشباب المنتسبين للفصائل العسكريَّة، انضمُّوا نتيجة الحاجة والعوز المادِّيِّ، لاسيَّما أنَّ تلك المنطقة لا تحظ بوجود مشروعات تنمويَّة من شأنها تخفيف أعباء الحياة وإيجاد فرص عمل تقيهم حدُّ الكفاف، لكن أن يتحوَّل، هؤلاء الشَّباب إلى وقود يستخدمه قائد الفصيل في معاركه الاقتصاديَّة فهذا ما ل أيمكن لعقل أو منطق تصوُّره.
في معركة عفرين موضوع تلك المقالة، قتل شابُّ من الجولان السُّوريِّ المحتلِّ، كان قد تهجر إلى تلك المنطقة بفعل جرائم نظام الأسد، لكنَّ الموت طاله بفعل جريمة من نوع آخر، بعد قتله بنحو ساعة واحدة، قتل الشَّابُّ” عمر الدَّأب” المنتمي إلى أحرار الشَّرقيَّة دون قيود، ودفن في اليوم التَّالي دون أن يحضر قائد فصيلة مراسم الدَّفن والتَّشييع.
قتل الشَّابِّ “عمر الدَّأب” الَّذي كان مثالًا يحتذى في الأخلاق الحميدة، وكان سيرةً عطرةً في المنطقة، وكان هو الآخر وقود لمعارك لا ناقةً لأبناء مدينته فيها ولا جمل، معارك إثراء لخزينة قائد فصيلة، ودفن غريبًا وحيدًا في منفاه الأخير دون أن يكرمه قائد أحرار الشَّرقيَّة بحضور الدَّفن، مات عمر قبل أن تجد المؤسَّسة المعنيَّة بإدارة المنطقة أيَّ حلِّ لها.
رحل عمر. . . لأبي حاتم طول الثَّراء