استوقفني صراخ سيدة في المخيم تبحث عن ابنها الذي ضاع وتبكيه، اقتربت منها لأسألها عن اسمه وشكله لأساعدها، فتمسكت بثوبي وقالت: “يا عين خالتك، مو هو صغير، 25 سنة عمره، بس ما في عقل، وإذا ضاع بخاف ما يرجع.” وما هي إلا دقائق حتى نادوا عليه من مئذنة مسجد المنطقة وهرعنا سويًا لنحضره.
الخالة أم (ملاذ السوسي) لديها ولدين معها مصابين بضمور عقلي (مهجة) بعمر 24 عامًا، و(ملاذ) 25 عامًا، واثنين آخرين سليمي العقل والبنية، وهي من قرية (بداما) بريف إدلب الجنوبي، وهي أرملة نزحت تحت ضربات الطيران الروسي وآلة الأسد العسكرية والتجأت إلى مخيم (النهضة) قرب الحدود التركية قبل 6 سنوات خوفًا على ولديها المصابين بضمور عقلي.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا
(اُم ملاذ) تقص بحرقة قلب حالة ولديها بقولها: “اولادي بحاجة رعاية خاصة، منذ أكثر من عشرين عامًا أطعمهم واسقيهم وأغيِّر لهم وأنظفهم.”
وتتابع:” تخيل نفسك أمام شخص عندما يمرض، لا يعرف كيف يعبِّر عن وجعه سوى بالصراخ الذي يملأ الخيمة ويجمع الجيران في جو من الهلع، المهدئات ومسكنات الألم أكثر ما أستطيع منحهم إياه، فقط ليصمتوا، وبعض أدوية الالتهاب عندما يصيبهم مرض ما بسبب العبث.
اقرأ أيضاً: البحر يلفظ ثلاث جثث لفتيات على شاطئ طرطوس
لا أستطيع أن أكون برفقتهم على الدوام، فأحيانًا يجرحون أنفسهم بأدوات حادة، أو يتناولون أي شيء من الأرض، لذا لا نبقي أي شيء في متناولهم.
أحمد الله على وجود ابنتي الصغر (آية) بجانبي، معافاة من كل مرض وتدرس حاليًا الثانوية، فهي تساعدني في رعايتهم أحيانًا وتقاسي الكثير بتمزيق كتبها ودفاترها بسببهم.”
تتمنى الخالة (أم ملاذ) لو أنها تستطيع متابعة حالتهم مع مختص بمرضهم كما في السابق، فابنتها مهجة وبكرها ملاذ، كانا في تحسن خلال فترة العلاج الفيزيائي والأدوية العصبية في صغرهم، لكن ضيق الحال ونزوحها إلى المخيمات أخَّر من حالتهم وأدى إلى تراجع حالتهم العقلية لتزيد من معاناتهم في أجواء المخيمات التي لا تناسب ولديها بعد تغير المنزل الذي عاشوا فيه لسنوات.
من المخيم نفسه أم مصطفى وابنتها المشوهة!
وليس بعيدًا عن الخالة (أـم ملاذ)، إذ ثمة جارتها (أم مصطفى) في المخيم نفسه، فهي أرملة أيضًا ولا معيل لها ولابنتها (إيمان) سوى الله وأهل الخير.
تقول أم مصطفى: “ابنتي ذات 17 عامًا تقتلع قلبي كل يوم، لم أعد أستطيع مجاراتها، وأبكي بسبب معاملتها لي أحيانًا، فوضعها المرضي يجعلها عصبية كثيرًا، ولدتها بتشوه خَلقي، فهي لا تستطيع إطباق فكيها وشكلها بشع في نظرها، وتهرب من مواجهة الآخرين بشكل دائم، وتهرب ممَّن يأتي لزيارتنا من أقاربنا ليطمئن عليها.
كما أن يدها اليمنى (معطوبة) لعيب خَلقي، هنا في المخيم لا يتوفر مركز للعلاج الفيزيائي حتى أتابع في علاجها عسى تتحسن حالتها وتتغير نفسيتها.”
خيامنا التي نرقعها كل عام لتقاوم الأجواء الشتوية بعد حرّ الصيف، تحتاج من يخيط جراح الأمهات فيها، وخاصة اللواتي يعانين من أوضاع صعبة نتيجة ظروف غير عادلة، ومثل هذه الحالات تحتاج من يخبر العالم عنها، عسى أن تجد من يهتم بها، فهل من آذان تصغي وقلوب تعطف عليهم؟!