توشك عملية طوفان الأقصى على النهاية، كعادة أي طوفان قادم من بيئة متراكمة، يبدأ عظيماً ثم ينساب رويداً رويداً ريثما يتلاشى، والطوفان العسكري الذي وقّعت عليه حماس والقسّام، وبعض الفصائل الفلسطينية، يوشك على التلاشي ليكشف وراءه حجماً كبيراً من الدمار في كل المناطق التي وصل إليها أو تلك التي انطلق منها.
ليس مستغرباً أن تنتهي العملية بنصر مؤقت كان عظيماً بكل تفاصيله وحتّى في كونه مؤقت، وسيبقى عظيماً في الذاكرة الفلسطينية والإسلامية حتى وهو يخبو ويواجه ردّات الفعل الانتقامية للصهاينة التي ربّما تدمّر قطاع غزة بالكامل، ولكنّه سجّل علامة فارقة مهمة جداً في البعدين الواقعي والاستراتيجي، وسيكون أحد أهم العوامل التي سترسم المتغيرات في المنطقة، فلا يشبه ما قبله ما بعده أبداً، هو ولادة جديدة مؤكدة لحقبة جديدة في حاضر المنطقة ومستقبلها القريب والبعيد على المستوى السياسي والعسكري وعلى مستويات التاريخ والجغرافيا والاستراتيجيا.
لست خبيراً عسكرياً لكي أحاول أن أفهم كيف تمّت العملية وكيف تمّ الاختراق، حسبي أنه تم بشيء يشبه المعجزة بالنسبة لما أفهمه على الأقل، ولا أريد التكهن حول الأسباب الحقيقية لهذه العملية، وإنما سأكتفي بتصديق ما قاله أصحابها عنها، والذي أعتقد أنه صادق جداً وكافٍ جداً: إنها طوفان متراكم يثأر بالدرجة الأولى لكل الانتهاكات التي يقوم بها الصهاينة، ويحاول أن يضع حدّاً لأي انتهاكات جديدة عبر رسم تصور جديد منبعث من الخيال عن إمكانية الردع وإمكانية المفاجأة وإمكانية الانتقام الموجع والمؤلم وغير المتوقع في حالة حرب غير متكافئة ولا حتى متقاربة في حدود الخيال والأسطورة.
استطاعت الأسطورة أن تولد في عمق خيال عاجز، في المحيط العربي والإسلامي وفي قلب الكيان الصهيوني، لم تكن ممكنة إلا في أحلام وخيالات الأطفال الذين قاموا بها، كبروا وهم يحلمون أنهم يطيرون فوق حصون العدو ويدكّونها ببنادقهم التي تحولت لمدافع مرعبة، واستطاعت صواريخهم التي طالما وصفت بالبدائية أن تدمّر ثقة العدو بنفسه وبقدرته وبمنظومته الدفاعية والاستراتيجية، هذه الثقة التي لن يُعاد بناؤها أبداً، وسيصبح خيال الصهاينة خصباً تجاه ما يمكن أن تفعله المقاومة الفلسطينية، لن يناموا بهدوء وسكينة بعد اليوم، سيخافون دوماً من خروج الغول من تحت وسائدهم ومن ظهور رصاص من العدم يمزق كل الدروع التي يقفون خلفها، هذا النصر لا يمكن تحطيمه، ولا يمكن إعادة التحصّن من إمكانية تكراره دائماً وأبداً .. وهو سيشكل خطوة كبيرة وفارقة في مسيرةِ إنهاء الاحتلال وزوال إسرائيل أقرب مما يتوقع أي أحد.
بعيداً عن المعركة وقريباً من تأثير الطوفان على المناخ الإقليمي والعالمي عموماً، ستحاول إيران استثمار هذه المعركة كي تخبر الإقليم بأنها قادرة على صناعة قوة كبيرة كالتي تملكها حماس، ومن قبلها حزب الله والحوثي، قوة، إيران نفسها لم تتخيل كيف يمكن أن تتصاعد وتضرب، وستحاول من خلالها إعادة الدخول إلى الملفات التي أُخرجت منها، والحضور على الطاولات التي طردت من أمامها.
من المؤكد إنه لا علم لإيران بالعملية، ولا أحد قررها سوى حماس وحسابات حماس وأهدافها، وهي من يقول إن هذه العملية نجحت كما ينبغي أو إنها لم تنجح تماماً، مع أنني مؤمن تماماً أن العملية نجحت نحو أبعاد وآفاق ربّما لم تخطر في بال من صنعها، الطوفان هكذا، يبدأ ثم لا يعرف أحد كيف ينتهي وماذا يُخلف وراءه من دمار وتغيير.
إن أي تطور للأحداث نحو اشتباك بين الصهاينة وحزب الله أو دمشق أو إيران في المنطقة سيكون في صالح القضيتين السورية والفلسطينية، لأنها ستضعف بالـتأكيد أهم أعداء القضية السورية، وستضعف الكيان الصهيوني، وستجعل المقاومة أكثر استفادة من إيران مع تحرر أكبر من سيطرتها نتيجة ضعف الأخيرة، وسيفتح جميع السيناريوهات المحتملة لحل القضية السورية في أقرب وقت ممكن.
العملية ضربت في طريقها حلم المطبعين الاقتصادي مع دولة آمنة (ومتطورة) على ساحل المتوسط، يريدون رسم خط تجاري جديد يمرّ من خلالها إلى أوروبا، لا شكّ أن قطر هنا مستفيد آخر، وتركيا أيضاً، وسيدافعون عن هذه الفائدة التي وصلتهم على طبق من ذهب، عبر دعم أصحاب الإعلان غير الآمن، وتأمين استمرارية الكابوس الذي يجعل الكيان الصهيوني “ممر مقلق” دائماً للاقتصاد وغير موثوق، ولا بدّ من الاتفاق مع أطراف أخرى محلية وإقليمية من أجل تأمينه، وهنا تصبح الكلفة عالية، والاستغناء عن هذا الطريق أكثر جدوى. وبالطبع هذا ينهي حلم (مركزية إسرائيل الاقتصادية) في المنطقة.
إنّ دفاع الصهاينة عن هذا الحلم سيحتّم عليهم الدخول في حرب شاملة قريباً لاقتلاع الخطر من جذوره، وهذا سيؤدي إلى دخول أطراف إقليمية في هذه الحرب في شكل شبيه لما حدث بعد الحادي عشر من سبتمبر أيلول 2001، وإذا نظرنا إلى نتائج حروب الولايات المتحدة رغم قوتها وغطرستها وبُعدها الجغرافي عن مركز الحروب التي خاضتها في أفغانستان والعراق، نستطيع استشفاف الكلفة الكبيرة التي من الممكن أن يدفعها الكيان الصهيوني في حال قرر الدخول في مغامرة مشابهة، ربما ستؤدي إلى زواله، حتى وإن حقّق في البداية نصراً حاسماً ومدويّاً، إلا أنه سيكون منهكاً لدرجة أنه سيكتب نهاية لإسرائيل في غضون سنوات قليلة بعده.
لا يجب أن نتغافل عن واقع الكيان الداخلي الذي جعل الكثير من الباحثين يقولون إنه ينبئ بنهاية إسرائيل حتى بدون حروب، فالانقسامات والأزمات وصلت إلى مرحلة ممزقة لمجتمع الكيان الصهيوني جعل أعداد كبيرة من سكانه يغادرونه طواعية قبل حدوث أي حرب، فكيف إذا قرر أن يحارب!!
يضاف إلى ذلك التغييرات التي تحدث إقليمياً والحروب المفتوحة في سورية واليمن وليبيا والعراق، والأزمات المنهكة في مصر والسودان وتونس وغيرها من البلدان العربية والإسلامية، والحرب العالمية المرتقبة بين الصين والولايات المتحدة، والحرب المستمرة بين روسيا وأوروبا عبر أوكرانيا، والأزمات الاقتصادية القائمة والقادمة، والحسابات المعقدة للمصالح بين الدول الفاعلة اليوم في معظم قضايا المنطقة.
هناك حالة من التشتت والتعقيد تجعل كل الاحتمالات تتساوى في أي تصادم قادم، وتعطي دائماً أفضلية نسبية لأصحاب الحق والأرض، لأنهم بطبيعتهم الأكثر ثباتاً والأكثر قدرة على التضحية والأكثر حاجة للنصر.
ربّما يُدمّر الأقصى، وتُقتلع غزة ومن عليها، نتيجة هذا الطوفان، ولكنّه سيكون الخطوة المجنونة التي ستجبر المنطقة على الدخول في دوامة من الجنون والتدافع والانهيار الذي سيرسم بداية جديدة كليّاً، لن تكون إسرائيل فيها على الأقل منتصرة خلال 10 إلى 15 سنة قادمة.
هناك أحداث تؤرِخ لما بعدها وتصبح نقطة فارقة في مسيرة التغيّر العالمي، منها على سبيل المثال: الحرب العالمية الأولى ثم الثانية ثم أحداث 11 سبتمبر ثم كورونا ثم حرب أوكرانيا، وبالتأكيد سيكون (ثمّ) كبيرة يوضع بعدها طوفان الأقصى.