في مقال سابق تحدثت عن النصر الذي حققته معركة طوفان الأقصى في أرض المعركة وعلى مستوى الداخل الفلسطيني والقضية الفلسطينية، ولكن لأن المعركة مثلت حدثاً عظيماً في التاريخ، فقد رسمت انتصاراً آخر على صعيد الأمة ككل، وحدثاً فارقاً سيكون له أثره في حركة التغيير والنهوض التي تستعيدها الأمة الإسلامية بشكل عام والمحيط الإقليمي العربي الإسلامي بشكل أكثر خصوصية.
لقد أعادت المعركة إحساس الشباب المسلم أنهم ينتمون لأمّة واحدة وأعادت وعيهم بأنفسهم وبأن لهم قضايا مشتركة وأنهم معنيون بهذه القضايا ووحدت جهودهم في سبيل نصرة القضية المركزية التي تجمعهم وتمثل رابطة العقد الموحدة لهم، وأكدّت على مركزية قضية فلسطين في الأمّة وفي العالم (قضية عالمية) كما أعادت المعركة إحياء فكرة الاشتباك المستمر مع العدو في فلسطين وأهمية ذلك للأمة كلها، وأعادت الإشارة إلى جذور القضية الفلسطينية في العالم والممتدة ل 75 عاماً، بعدما اعتاد العالم على توصيفها كحادث عرضي سيتم علاجه عن طريق المسكنات، والحلول المجتزأة من سياقها.
تمكنت المعركة من تغيير معتقدات العجز وعدم قدرة الشباب على التأثير في المعارك الكبرى التي تتجاوز حدود قدراتهم، عن طريق رؤيتهم للتأثير الإعلامي الكبير الذي استطاع الشباب أن يصنعوا منه انتصاراً كبيراً في مواجهة حملة إعلامية شرسة قادها الصهاينة وحلفائهم بتمويل ضخم لم يسبق له مثيل، أسقطه الشباب بدأبهم وعزيمتهم ووجودهم المستمر على وسائل التواصل ليعلنوا الحقيقة للعالم دون كلل أو ملل.
أعادت المعركة الحياة للقضية الفلسطينية وارتباط الشباب المسلم بمقدساتهم من جديد بعدما كاد يسيطر مجتمع التفاهة على مساحات واسعة من أرضيات الشباب المسلم ويحول إحساسهم بالقضايا المقدسة إلى عدم اكتراث أو إلى عجز وانتظار لفرج خارجي ليس لهم القدرة على المساهمة به.
لفتت المعركة الأنظار مرة أخرى إلى قوة سلاح المقاطعة الذي حمله هذه المرة الشباب الجديد الذين تمّ إقناعهم مراراً وتكراراً أن المقاطعة غير مجدية وغير نافعة وغير مؤثرة عبر تجارب عديدة سابقة، ولكنهم قاطعوا واستطاعوا التأثير إلى درجة انصياع العديد من البراندات والعلامات التجارية العالمية، وما زالت المقاطعة مستمرة وتتضخم كل يوم.
أعطت المعركة اليقين لشباب اليوم، وخاصة في محيط فلسطين وفي بلدان الثورات أنهم قادرون على التخطيط والعمل والتنفيذ والنجاح والانتصار رغم كل المثبطات حولهم، وهذا سيسهم كثيراً في عملية التغيير الشاملة التي تتعرض لها المنطقة، حيث سيتلاشى الإحساس بالعجز، وسيكون العمل والدأب والصمود والقتال في سبيل الأهداف هو عنوان المرحلة القادمة
أعادت المعركة للشباب المسلم وللشرق عموماً فخره واعتزازه بقيمه الراسخة الثابتة التي لا تتغير بتغيّر المصالح، وعرّت قيم الحداثة الغربية المليئة بالنفاق والمصلحة والنفعية والكيل بمكيالين، والتي لا تحمل حتى معاني الحروف التي تكتب بها، كما عرّت التعالي الغربي ونظرته لحقوق الإنسان والضحايا والطغيان الذي يستبد بالعالم بسبب هذه القيم الكاذبة، وحررت وعي الشباب من أوهام اللحاق بالغرب وتقدم الغرب وتقليد الغرب، فهذا الغرب أثبت في المعركة أنه لا يحترم الإنسان ولا يحترم حرية الرأي عندما تخالفه، ولا يأبه إلا بمصالحه ولو كانت على حساب الدماء.
لقد خلصتنا هذه المعركة من دعاة النهضوية الغربية وقيمها الفارغة والمخادعة ومحاولات التبشير بتلك القيم وعولمتها وجعلتنا أكثر حساسية للقيم الشاذة التي تحملها مصطلحات كالمثلية والنسوية والمساواة الجندرية وغيرها مما لا هدف له إلا تدمير الأسرة والإنسان والدين والتماسك الاجتماعي العظيم، الذي شاهده العالم بصورة أسطورية في غزّة، كما جعلتنا المعركة أكثر قدرة على مواجهة التبشير الغربي عندما امتلكنا من خلال المعركة أدلّة لا تقبل الشك على نفاق وكذب وسفالة وسقوط القيم الغربية وأصحابها.
لقد ساهمت المعركة في تحرير وعي كثير من الشعوب الغربية حول الإسلام ودعوتهم إلى التعرف عليه عندما رأوا الصمود الكبير والسكينة التي يمنحها الإسلام لمعتنقيه، كما جعلت المسلمين أكثر فخراً واعتزازاً بدينهم وأكثر قدرة على الحديث حوله وشرحه وتبني قيمه المليئة بما يجعل هذا العالم أفضل وأكثر إنسانية وحرّية وحضارة
أعطت المعركة الأمل واليقين بقوة الحركات الصغيرة في كل العالم، التي وجدت أنها تمتلك أضعاف ما تمتلكه حماس من قوة وحرية، ومع ذلك كانت تظن أنها غير قادرة على الفعل والتغيير، بعد الطوفان ونتائجه شعرت معظم هذه الحركات الصغيرة في كل العالم أنها قادرة على الفعل، ويجب ألا تستسلم للظروف، وسترون قريبا تغييرات تحدث في كل مكان في العالم كموجات صغيرة ستتحول رويداً رويداً إلى طوفان عالمي سيساهم في رسم خريطة جديدة في مختلف المجالات السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والاجتماعية.
أعادت المعركة رسم ملامح الجهاد الذي نشأت عليه الأمة، الجهاد بالنفس والمال واليقين بأن الموت والحياة والأرزاق بيد الله وحده، ففي كل يوم يستشهد المئات، ونجد أهاليهم صابرين محتسبين يصرون على إكمال المعركة دون وهن أو ضعف أو تخاذل، هذا الإيمان الذي تفوقت به الأمة على غيرها من الأمم عبر التاريخ، يكرره اليوم أهل غزّة ومقاتلوها في جهاد عظيم يعيد إحياء نفوس الشباب المسلم وهممهم في كل العالم.
إذن علينا أن نكون موقنين أن نصراً عظيماً جداً له تأثير عالمي قد حدث وما زال مستمراً بالانتشار والتضخم، وعليه فإن هذه المعركة لا يمكن أن يكون لها أثر سلبي، حتى لو لا سمح الله دمرت غزة وانتهت حماس، فلقد أدوا أمانتهم لنا، نحن من سيحمل الرسالة بعدهم على أكمل وجه بإذن الله.
وما أشبه حالهم (أهل غزة اليوم) بحال المسلمين يوم الخندق عندما كانوا على موعد مع مواجهة الأحزاب، هذه المواجهة التي قد تستأصلهم بالاستناد لمعايير ذلك الزمان، ولكن رسول الله في تلك اللحظة وهم يحفرون خندقاً حول خوفهم، كان يبشرهم بفتح الشام وملك كسرى وقيصر، في تلك اللحظة المسكونة بالضعف والخوف واحتمالية الفناء، كانت البشريات عظيمة
وهذه لحظة مشابهة … مهما كانت مسكونة باحتمالات الخوف والفناء فستُحدث بعدها انتصارات عظيمة جداً تعيد زمن الفتوح والتحرير، سيكون طوفان الأقصى خطوة كبيرة في مسيرة تحرر الأقصى، وتحرّر الأمة، هذا ما علينا أن نركز عليه، ولا نصغي للمرجفين الذين يحاولون إجهاض كل لحظة أمل نمر بها، ويستولدون الهزائم من رحم العجز والوهن، قالوا وما الوهن يا رسول كما في الحديث، قال: “حب الدنيا وكراهية الموت …”
اليوم نحن أمام جيل لا يعرف حبّ الدنيا ولا يخاف من الموت، جيل لم ينشأ على النظرية، وإنما عاين التجربة ووجد أثرها، جيل لا يعرف الاستسلام للظروف لأنه في أقسى الظروف استطاع صناعة نصر استثنائي وعظيم كطوفان الأقصى …
في سورية لدينا قضية حق مشابهة، القضية الفلسطينية عمرها 75 سنة، وحماس عمرها 35 سنة، أمّا قضيتنا السورية فلا زالت في بداية الطريق ولم نكمل بعد ثلاث عشرة سنة من الكفاح والنضال أمامنا الكثير لنتعلمه ولنعمل بما تعلمناه يوماً بعد يوم من كل التجارب المشابهة.
ولا أقول هذا للحض على التراخي، وإنما لكي أؤكد أنه لم يفتنا أي شيء، وما زلنا نخوض التجربة، لكن الزمن أصبح متسارعاً جداً، وهذا يفرض علينا المواكبة والتسارع والقدرة على الإنجاز في وقت أقل والانتصار في زمن أقل، وربما تكون هذه المعركة من المحفزات الفارقة في الطريق التي تحرر الوعي والقدرات والإرادة لكي نصنع التغيير الخاص بنا، والممتد نحو الأمّة كلها …
ويجب أن نتذكر دائماً أن العين لا تقاوم المخرز، ومن التعاسة السعي وراء الشعارات المغرقة في الخيال والتضحية والأماني والعبث والحضّ على الحمق والتهور …
فما فعله الفلسطينيون هو مواجهة عظيمة أعدوا لها عدّة عبر سنوات، صنعوا مخارزهم ووضعوا الدروع فوق أعينهم، وهم من فقأ عين العدو الغافلة والمكشوفة والنائمة والمتساهلة، فمن العبث والخيانة والشاعرية البلهاء أن نُصدِّر للأجيال أن ما فعلته المقاومة الفلسطينية هو مواجهة العين للمخرز، وإنما كانت مخارز متشابكة استطاع الأبطال أن يغرزوها في عيون أعدائهم على حين غرة بعد إعداد وجهاد واجتهاد ودأب وتعب وصبر ومصابرة.
فالضعفاء يموتون أو يصابون بالعور، لأن الأعين لا تقاوم المخارز، هذه حقيقة ينبغي عدم تجاوزها، لقد صنعت حماس قوة، وهذه هي الرسالة للأجيال، اصنعوا قوة تتكسر عليها مخارز الأعداء وتدمّر مدافعهم، اصنعوا قوة تستطيعون فيها مهاجمة من يحمل المخرز، وهزيمته، اصنعوا المدافع التي تمكنكم من النظر بعيداً حيث لا يستطيع أي أحد الاقتراب من أعينكم.