خلال عشر سنوات ماضية كتبت الكثير والكثير عن الثورة، تحدثت عن غايتها، عن تصورها، عن تغولها وخيبتها وفورتها وهدوئها، تحدثت عن الحرية، وعن الوطن كأساس لفهم الثورة، وعن الثوار وتقلباتهم وتغيرهم وثباتهم.
تحدثت عن الأحلام، عن الانتكاسات، عن الرؤى والحقيقة، عن الناس، وعن المعضلات والإشكاليات في الثورة، كنت أتحين الفرص والمناسبات لأكتب وأذكّر، ولا أدري أين أصبت وأين أخطأت، فما أكتبه هو مقالة رأي، وللقراء الموافقة أو الرفض، وسأحاول هنا أن أوجز أهم ما كتبته خلال السنوات الماضية، وأضع روابط المقالات الأصلية داخل النص لمن أحب أن يقرأ النصوص كاملة.
” لا يهزم صاحب الحق مهما طالت عليه الحرب، وأثخنته جراحها، وإنما تشتدّ عزيمته وتصلب إرادته مع التضحيات والدماء”
لست ثائراً حتى الرمق الأخير، ولا يعنيني كثيراً أن توضع صورتي يوماً على جداريات الثوار أو في كتب ذكريات الثورة اللاحقة كثائر، لست أرى في الثورة انتماء أو بوصلة حق، ولست أرى فيها انحيازاً أقدر على مجاراته، أو وطناً يستلزم مني أن أضحي في سبيله أو أن أحميه ما استطعت.
ليست الثورة ما صرخت من أجله، وليست ما هُجرت من أحب المدائن إلى قلبي من أجله، وليست ما أنا قادرٌ على أن أموت من أجله.
لا أريدها أن تنطفئ كشعلة تخيف الطغاة وتبدد شيئاً من ظلامهم، ولا أريدها أن تتوقف كعصا نضرب بها الباطل ووجوه الظالمين أينما كانوا، ولا أريدها أن تأفل كذكرى تستمر في وجداننا لكيلا ننسى حجم الدماء التي بُذلت في طريق ما كانت من أجله هذه الثورة.
لا أستطيع أن أقبل أن تصبح الثورة غاية ووجوداً لنا، وأن نجعلها غلافاً لأهدافنا فلا نرى سواها، وأن تكون حماساً طائشاً يجعل من كل ثائرٍ بوصلة لنفسه، ووهماً متعالياً على الآخرين بتضحياته ونزواته ومثالياته الطوباوية الحالمة الخارجة عن حدود الواقع والمألوف.
ليعلم الجميع أن الثورة لم تكن خياراً، لم تكن يوماً شيئاً سهلاً، ليست عقيدةً أو انتماء، إنها أسوء ما يمكن أن ترتكبه الشعوب تجاه أوطانها وحريتها.
نعم، بكل هذه الفجاجة والصراحة، لم تكن الثورة أبداً خيارنا، أو إرادتنا، حاولنا دفعها بكل ما نستطيع على قدر ممكناتنا يومئذٍ، لم تكن بالنسبة إلينا استغلالاً مهماً قد لا يجود الدهر بمثله، لكنها وقعت كأمرٍ لا مفر منه، وقعت في داخلنا قبل أن تقع على أرضنا، وقد حاولنا أن نتأقلم مع وضعنا الجديد وأن ننتصر لحقنا، ولوطننا، ولقيمنا، وللناس الذين آمنوا بنا، حاولنا أن نفعل ما ينبغي فعله عندما تقع الثورات، أن نقاوم، أن نمتلئ بالعزيمة، أن نصبر، وألا نهزم أبداً مهما طال الزمان واستطال العذاب.
حاولنا ألا نجهض الوطن، ألا نعلن الدمار الكبير، ألا نحارب أنفسنا، ألا نعبد الفوضى، ألا نفرق الناس وألا نسيل الدماء، لكن سكين الظالمين لم تشبع من نحورنا، وسياط الجلادين لم تستقر على أجسادنا، وإذلال الحكام وحقدهم واستعلائهم لم يتوقف عن استعبادنا وإهانة كرامتنا وتشريد أهلنا والنيل من أعراضنا، وجميع محاولاتنا السابقة باءت بالفشل، فكانت الثورة، وكنا الثائرين .
لقد أثقلنا الواجب يا صاحبي، لم يعد الأمر خياراً، صار دَيناً وحقداً ووصيةً وبقية كرامة، لقد تضاعف آلاف المرات عن أحقيّة الصرخة الأولى، لقد صار ثأراً كبيراً لا يمكن تجاوزه، وما زالت تلك الحرية التي حلمنا بها جميعاً تستحق أن نبذل في سبيلها.
هكذا .. عندما لم يبقَ ما نستطيعه إلا الثورة فعلناها، بكل ما نتصوره من الحرب المفجعة، أو ربما لم نتخيل أنها مفجعة إلى هذا الحد، لم تكن رحلة هينة، ولم نتصورها كذلك، لقد عرفنا ما ينتظرنا منذ أول مذبحة، لكن لم يكن الواقع يوفر أي بديل آخر لاسترداد حريتنا. فحملنا ما نستطيع من الدماء والأرواح قرباناً لوطننا، ومضينا في طريق الحرية العظيم.
تعودنا على الموت، وعلى الخسارات، وعلى الخراب، وعلى الدماء، ليس تأقلماً وإنما قهراً، لكننا لم نتعود الهزيمة، ربينا العزيمة ولم نخسرها أبداً، آمنّا بإلهنا، وبحقنا، وبوطننا، وبرسالتنا التي تكمل لنا حياتنا القصيرة.
الثورة ليست صنماً يعبد، ليست شيئاً نقدسه دون أن ندري لماذا، ليست شيئاً نجيب على تساؤلاته بأننا وجدنا آبائنا على أُمةٍ، وأننا على آثارهم مهتدون ..
إنَّ الحياة الوادعة الآمنة المليئة بالخبز لم تعد تعنينا كثيراً، لم نعد نستطيع أن نصمَّ آذاننا عن كل الصراخ الذي تمتلئ به حياتنا وهو يطالبنا ألَّا نتوقف إلاّ بعد أن نُضمّدَ كلّ الجراح، أصوات المعذبين لا ترحم يا صاحبي، إنَّها وجع مرهقٌ جداً، نحتاج أن نكون أوفياء بحقه، حتى ننتصر له بصنع الحياة التي تستحق أن تُعاش، أو نموت دون ذلك.
كنَّا نرى دين هذه الأيام بين أعيننا، كنَّا نرى الجيل القادم وهو يتابع معركة الحرية التي بدأناها، لم يكن التفريط أمرًا مستساغًا، ولم يكن الاستسلام مجديًا، لقد كانت حربًا كبيرة جدًا بكل تفاصيلها، لكن حاولنا على كثرة الخذلان أن نكون أكبر من تلك الحرب، وأن نستمر في كفاحنا الذي بدأناه منذ عام ألفين وأحد عشر، كانت الحرية التي داعبت أرواحنا أمرًا يستحق التضحية، وشكلت الرسالة التي آمنّا بها أمانة كبيرة في أعناقنا حتمت علينا أن نوصلها إليكم بأفضل صورة ممكنة.
حملتنا أرجلنا بكل تثاقل الأرض، سقطنا كثيرًا في الطريق الطويل، نزفت وجوهنا، وفُقئت أعيننا مرارًا، لم نستطع أن نعترف بالرضوخ، كان يجب علينا أن نصل بطريقة ما.
لقد قلنا يومها أننا سنستمر، وسننتصر رغما عنا، وسنفي بوعدنا، وبرضى الله الذي نبتغيه، وبحلم الناس الذي حملناه على أكتافنا، وحتى ذلك اليوم، سنفعل ما بوسعنا كأصحاب حق، وليس كثائرين فحسب، لقد رأينا بأم أعيننا أن الثورات تنحرف عن مسارها، وأن كثيراً من الثوار يجعلونها انتماء، ويجعلون الدماء وشهواتهم بوصلة للحلم الكبير بدل أن يكونوا مجاهدين في طريقه كما ينبغي، إن الثورة أداة نملكها .. وليست انتماءً لأحد، ولا فضل لثائر على غيره من الناس، فكل يعمل في سبيل ما يؤمن به ويرتجيه، إن كان خيرا فيصيبه الخير، وإن كان سوءا فيجزى به.
لقد أتعبنا أنفسنا ومن بعدنا بدَينٍ كبير من الدماء، وحملٍ ثقيل من الثأر، وطلبٍ لا ينتهي للقصاص، فأيُّ حرب تلك التي خاضتنا بدل أن نخوضها؟ وأي ثورة تلك التي مزقتنا بدل أن نُمزق أعداءنا بها؟ وأي حلم كبير بالحرية استحال إلى سجن واسع لا نقدر على الفكاك منه، فقد أثقله الواجب وملأته الوصايا والدماء؟
إن ما نريده أن نصحح البوصلة تجاه الوطن، أن نمسك بالثورة كأداة، ولا نحيلها انتماء عقيماً واستعلاء أعمى، إننا نقاوم في سبيل الحق والحرية حتى يرضى الله لا الثورة، ونريد أن ينتصر الوطن لا الثوار، وعلى هذا نحمل الأمانة، ونبذل الدماء، ونشحذ العزيمة، ونشد الوثاق، ونحيي الأمل ونقتل اليأس، ونحمل الناس على الصبر والفداء.
هذا الطريق الذي نسير به ليس اختيارنا فحسب، بل هو اختيار كرامتنا وإنسانيتنا، كل ما عايشناه منذ عشر سنوات تقريباً يُخبرنا أن ما خطونا تجاهه هو الصواب. حتى لو خسرنا معركتنا اليوم في آخر جبهاتها، سيكفينا أننا لم نُسلم الحق للباطل، ولم نركن للظلم والخيانة، لم نبع وطننا لطغمة مجرمة استعانت على شعبها بكل جيوش الأرض من أجل البقاء في الحكم، وسلمت البلاد وأهلها وباعتهم بأبخس الأثمان لكي يبقى الدمية فوق كرسيه كركوزاً لا يملك من أمره شيئاً.
الحرب متعبة، مليئة بالنكبات والخسارات، ولكن الهزيمة لا تليق بنا ونحن نتنفس عبق الشهداء ونحيا على أرض خالطتها دماؤهم، لا يُهزم من أقسموا على المضي في الطريق حتى النهاية، لأن أنفاسهم أطول من ذلك الطريق، وعزيمتهم أصلب، وسيفهم أمضى وأعمارهم لا تنتهي، ذلك أنهم لا يتوقفون أبداً، ففي الحروب من يتوقف أولاً هو يحكم على نفسه بالهزيمة. “وا خيبة الحق إن لم يجد في نفوس أبنائه تلك العزيمة والتضحية التي يجدها الباطل في نفوس من التف حوله”، لن يُهزم إلا من قعد عن نضاله وأعطى حقه لعدوه صاغراً، وبكى أطلال مدينته وغادر حربه مستسلمًا. أما القابضون على الجمر فسيرتد الجمر في أيديهم حجارة باردة يبنون بها وطنهم من جديد.
علينا أن نستمر فقط، ألا نتوقف ولا نتعب مهما طال علينا الطريق وعظُمت الشقة، وألا يصيبنا اليأس والملل، وألا نلتفت لخلاصنا الفردي وحياتنا الضيقة، أن نقاتل على ثغورنا التي نعمل بها لننتصر، وألا نحولها إلى شغل نأكل به الخبز فحسب، أن نبذل ما نستطيع من جهد وعرق وسهر ودماء، أن نستمر بكل العزيمة الممكنة، ولا نضعف أو نفتر أبدًا …
عليك أن تكون موقناً أنّ الراحة التي تحلم بها لا يمكن أن تمنح لك إلا ذليلاً، فإيَّاك أن تلقي الجهد والنضال عن ثورتك، حتى وإن كنت تعتبر أنَّك أنت الثورة فقط، فكن وفياً لكيلا تنتهيا إلا معاً، وإلا فأنت مجرد مغامر أحمق، ستلعنك هذه البلاد يوماً.
لا يعلم من يراهن على هزيمة الثورة أنَّ فيها رجالاً قد يئست الدنيا من إرهاقهم، فكل يوم جديد بالنسبة إليهم هو بداية جديدة، ليس لها علاقة بكل ما قبلها، إلا بشحذ إصرارهم على المضي قدماً حتى تحقيق نصرهم، .. كل إشراقة نهار تعني أنَّ ما قبله مات وانتهى، وهم أحياء، فعليهم أن يعيشوا كما يليق بالحياة، كل خسارةٍ مرَّت هي دينٌ يوفَّى، وقد اقسموا على وفاء الديون كاملة، كل مدينة هُجروا منها هي عشق استقر في القلب عميقاً جداً، حيث لا يمكن لعدوٍ أن يصل إليه، ولا لرصاصة أن تقتلعه، ولا يمكن أن يحجبه خذلان أو تقتله خيانة.
لا يعلم من أتعبته الثورة أنَّ الحرية فاتنةٌ جداً، وأنَّ الثوَّار مغرمون، تشغفهم عينيها كلما لاحت من بعيد، فيعودون إلى الصرخة الأولى بمزيد من الإصرار، لا يضرهم من خذلهم حتى يتحقق الحلم أو يموتون على أعتابه المقدسة.
لا يغرنَّكم أنَّهم اليوم قد توقفوا لالتقاط أنفاسهم، لا تظنوا أنَّهم قد تعبوا، أو استسلموا على الرغم من كثرة جراحهم، ومن الدماء التي تغطي جباههم، والكسور التي تملأ أطرافهم، والدمار الذي حلَّ بتلك المدن التي يعشقون، إنّما للأجساد طاقة قد خبت بفعل القدر، وها هم يستعيدونها عمَّا قريب، فيكرون كرّةً تعيد الأمور لنصابها، والثورة لشبابها، والبلاد لأصحابها،.. لكنَّها سُنّة في الجراح، لابدّ لها من وقت كي تُشفى.
لقد علم هؤلاء أنَّ للسياسة مداخلا فدخلوها، وللقتال ساحات فملؤها، وللحرية عقولا فربوها، وللعدالة منارات فنصبوها، وللكرامة علامات فوَسموا وتوسّموا بها.
ربما نفتح أعيننا قريباً على شكل وطن لا يعجبنا، ولكنه الحلُّ الوحيد لنحافظ على ما تبقى من الوطن، .. علينا في ذلك الوقت أن نقبل دون أن نتقبل، أن نحتضن الوطن، ثم نعيد إشعال الثورة فيه بعد أن نمتلكه، ..
الثورة ليست جغرافيا، الثورة إرادة تغيير، لذلك كنّا مؤمنين يوم خرجنا من أجمل أمَاكِنها، إننا سنستطيع المواصلة، وإنَّ جذوة الثورة لن تموت فينا، بل ستشتعل لنكون أكثر قوةً وعزيمةً فيما تبقى لنا على طريق النصر الذي نؤمن أنَّه سيأتي يوماً ما قد لا نكون هنا، ولكنَّنا سنشعر بالفخر والسعادة على أنَّنا خطونا الخطوة الأولى على وعورتها وكلفتها العالية من الدماء والدموع، سنكتب وصيتنا لكلِّ الأجيال اللاحقة بأنَّ هذه الثورة لا ترغب بالهزيمة، وسنقول لهم: أين أخطأنا وأين أصبنا، ولن نرسم لهم تلك الصورة المثالية التي ستشعرهم بالعجز أمام تكرارها.
لم نكن مثاليين قط، أخطأنا كثيراُ، وأصبنا كثيراً أيضاً، وفي خضمِّ الدماء كنَّا جشعين أحيانا، مصلحيين أحياناً، انتهبتنا الانتماءات الفارغة بعيداُ عن انتمائنا لوطننا وثورتنا ودماء الشهداء، ولقد سمحنا لأصحاب الأحلام والمشاريع ببراءة أحياناً، وبغباء أحياناً أخرى، وبشراكة الوهم والسلطة والمال في مرات عديدة بسلب حلمنا، وبإعادة تشكيله كما يناسبهم هم، لا كما يناسبنا نحن الثوار، الذين قالوا “لا” بقوة في وجه كلِّ الطغيان الذي احتملته هذه الأرض، فلم نعد نرى إلا ما يريدون، ونسينا فجأة تلك الحرية الفاتنة التي قاتلنا من أجلها عندما تقاذفتنا شهواتهم المزركشة.
مع مرور الوقت خرج النظام من دائرة الاستهداف، بتنا مستسلمين لفكرة رائجة وهي إن إسقاط النظام عمل دولي ليس لنا شأن فيه، وأصبح الجميع يدّعي أنه يفكر بطريقة استراتيجية بعيدة المدى، وبنظرة ثاقبة إلى المستقبل، ويعمل لما بعد سقوط النظام، أو لما بعد الحل السياسي كما هو رائج مؤخراً .
لقد كنَّا واضحين جداً في البداية، كنَّا نحلم بالحرية والعدل ومحاسبة الظالمين والفاسدين فقط، لم نكن نفكِّر بشكل الدولة أو اسمها أو دينها أو إلحادها، كان يكفينا أن تتحلَّى بهذه القيم لتكون كما نريد، لم نعرف كيف استطاعوا تجييشنا تجاه أفكار متضاربة جعلتنا نقاتل بعضنا في سبيلها قبل أن نقاتل عدونا، لم ندرك أصلاً كيف جعلونا نحمل السلاح للقتال، كيف استطاعوا خلقَ وهمِ الطائفة في نفوسنا، خلقَ وهمِ الأكثرية والأقليات، ودوخوَّنا بصراعات عقيمة لا نعرف ماذا نبتغي في نهايتها، لقد حمَّلونا ما لا نطيق، حمَّلونا حروبهم التي لم يستطيعوا إنهاءها منذ زمن، لنموت نحن في سبيلها، وصارت أرضنا مرتعاً لصراعاتهم، ونحن البيادق التي تقاتل من أجل حماية مصالحهم، والكثير منَّا اكتسب إيمانا جديداً بشيء لا يشبه وطنه، صار يقاتل من أجله من خرج معه ثائراً في سبيل حريته، لقد أعادوه عبداً من جديد، عبداً أشدَّ طاعةً وعمىً عمَّا كان من قبل، لقد عرفوا جيداً كيف يجعلوه يتوهَّم الحرية في خياراتهم المحدودة جداً، بينما بقي الوطن بعيداً عن تلك الخيارات.
نحن أبناء هذا الواقع، نعيش فيه ونتحرك وفق قوانينه، وتحاصرنا مقتضياته الحتمية في خطواتنا الأولى، لا ننشد تغييره قبل أن نستطيع التأثير فيه، وإنّ تبنِّينا لأي نظريات خارجة عنه تماماً ستجعلنا كمحاربي الظلال، يخوضون معارك متعبة ولا ينتصرون إلا على أنفسهم، تغالبهم أوهامهم بصحة ما يعتقدونه صواباً فيستمرون بالدوران في حلقاتهم المفرغة من الحقيقة والمبنية على التصور.
يجب أن يعاد التفكير كلياً بكلمة ثورة فالفكرة الجديدة للثورة ليست فكرة وعد ولا إنجاز ، وهي لم تعد الكلمة “الحل” إنها الكلمة “المسألة”.
بهذه الكلمات يلخص الكاتب الفرنسي أدغار موران نظرته لمعنى الثورة، ليحضّ الشعب على تحمل مسؤوليته في كل مرحلة، بعيداً عن انتظار لحلول لن تأتي، بل تتم صناعتها في خضم العمل الثوري المتواصل والذي لا ينتهي بمجرد النصر وإنما يستمر حتى تحقيق نهضة حقيقية
نعم، إنها الكلمة المسألة، إنها ما يحتاج لعمل دؤوب لا ينقطع إذا أردنا أن نصنع نصراً حقيقياً، وإلا فإننا سنعيد صناعة طغيان جديد باسم التضحية، تستأثر به فئة قليلة من مدعي الثورة.
علينا أن نملأ جميع الأماكن، وأن نكون حاضرين في كل ميادين القتال إن صح التعبير، السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية إذا كنا نريد أن نحقق تغييراً حقيقاً، وإلا فإننا سنستمر بالدوران في حلقة مفرغة لخمس سنوات قادمة دون جدوى.
إن الثورة ليست مسؤولية فئة دون أخرى، ليست مسؤولية نخبوية، إنها تحدد مصير شعب كامل وربما أمّة كاملة، لذلك فهي مسؤولية الجميع، علينا أن نتحمل المسؤولية تجاه القضية التي آمنا بها ولن ينفع التعب هنا أو الملل أو الضجر أو التفكير بالمصلحة الفردية، إن شيء من هذا القبيل سيجعل الهزيمة أقرب لأرواحنا، وسيجعلنا خارج دائرة الصراع الذي يحدد به مصيرنا لقرون قادمة .إن أهم ما في الثورة هي القيم التي تحملها، تلك القيم التي تجعلنا نؤمن أنها تستحق التضحية، والحفاظ على هذه القيم، لا يكون بطرحها كشعارات جوفاء لا قيمة لها، وإنما بممارستها على الرغم من القهر والألم الذي يعصف بنا، إنها تعني تماماً كيف يمكن أن تتضور جوعاً لكي تطعم محتاجاً والابتسامة تملأ وجهك .”لم نعد بحاجة إلى يقين النصر لنتابع النضال، فالحقائق الملحة تستغني عن النصر وتقاوم من أجل المقاومة”
على الرغم من إيماني الشديد بالثورة كقضية لإيجاد الحقِّ كأداة بحثٍ مشروعة، كسلاح جامع في وجه الطغاة، إلا أنَّني لا أستطيع أن أستوعب أنَّه من الممكن أن تتحول إلى قيمة مجردة وفارغة وصفة يتمُّ تداولها كصكوك نخبوية مقيتة تدَّعي الحقَّ المطلق.
عندما بدأت الانتفاضة في سورية لم نكن جاهزين لها، لم نخطط، ولم نرتب لأي شيء، حدثت فجأة وبشكل لم نكن لنصدقه في البداية، انطلقنا في ميادينها بحماسنا الطفولي، وتلقينا كل تحدياتها وأسئلتها البسيطة والمعقدة بعقليتنا المندفعة فقط للانعتاق والحرية، تلك العقلية لم تكن مُعدّة لهذا النوع من الصدمات والتحديات، ولم تكن قد عاينت شيئًا مشابهًا منذ أمد طويل.
واجهنا كل شيء بطفولية عابثة، بكامل عيوبنا ونواقصنا وشخصيتنا التي تشبه ذلك النظام الذي تربينا في مداجنه أكثر من أربعين عامًا، لم نمتلك الوعي الكافي للتحكم بالأحداث من حولنا، كانت الأحداث هي من تتحكم بنا وتعيد صياغتنا بدل أن نفعل العكس، كان كل شيء بسيطًا بالنسبة إلينا، ولم نكن نمتلك من الفضيلة ما يحمينا من الانجرار وراء أساليب بشعة قام بها البعض في حربه من أجل الثورة! الثورة التي حملت المبادئ وأهدرتها في الوقت نفسه في طريق الوصول إليها.
بعد عشر سنوات تقريبًا، وبعيدًا عن أي مناسبات أو ذكريات تمنح هذه الكلمات وقعًا مختلفًا، لا بدّ أن نعترف أن الثورة في بداياتها كانت أكبر من تصوراتنا وقدرتنا على المضي في طريقها، لقد تاهت بساطتنا في تعقيدات الآخرين الذين أمسكوا الثورة وفق أيديولوجياتهم، كانوا مقنعين لأنهم يعرفون ماذا يريدون، وكنا ضعفاء لأننا ظننا أنهم يريدون تحقيق أهدافنا التي لم تكن قد تشكلت بعد بصورتها النهائية، فأعادوا تشكيلها لنا مرارًا.
اقرأ أيضاً: لا مكان نعود إليه
من حسن حظنا أن الثورة لم تنتصر، منحتنا كل هذه الفرصة الطويلة لنشكل وعينا، لنصبح أكثر استعدادًا لمفاجآت شبيهة بها، كانت تجربة قاسية ومريرة جدًا، مليئة بالآلام والفقد والدماء، ولكن من الجيد أننا عشنا هذه التجربة لفترة طويلة سمحت لنا بأن نكبر معها، دون أن تتجاوزنا نجاحًا أو فشلاً، دون أن نسقط في داخلها، أو أن نمرَّ منها على سجيتنا الأولى فيُعاد تشكيلنا مرة أخرى كما حدث في تلك التجارب التي مرت سريعًا حولنا.
ربما أحد الانتصارات التي حققناها في هذه التجربة أننا لم نخرج منها بعد، ما زلنا نعارك أنفسنا وأعداءنا فيها، ما زلنا نمتلك الوقت لكي نستطيع الإمساك بها، صحيح أنها تطحن عظامنا، ولكننا لسنا من ضحاياها، ولم تستطع حتى الآن تجاوزنا ورمينا خارجها.
إذا أردنا أن نكون أفضل علينا أن نستطيع تصور ما هو قادم من أجل الاستعداد له، علينا ألَّا نحذف أي مستحيلات من خياراتنا لكي لا نسقط من جديد عندما يصبح أحد هذه المستحيلات واقعًا كما الثورة، القدرة على التصور والاستعداد نصف المعركة، والنصف الآخر يقوده الوعي والمواجهة.
إنّ الدعوة للمواجهة وعدم الاستسلام، لا تكون بالذهاب نحو الموت عنادًا وتضحيةً وخلودًا ووصية، إنّ الرفض الذي لا يستلزم بدائله هو عبثٌ كبير في مصير الناس الذين يساقون إلى قدرٍ لم يكونوا طرفًا في صناعته، وإن قول “لا” في مواجهة “نعم” ليس معادلة صحيحة، كما أن قول “نعم” في مواجهة “لا”، ليس خيارًا صالحًا، إنما تستلزم الخيارات التي نتمترس خلفها أن تكون قادرة على حماية ما نؤمن به، أو حمايتنا على الأقل من أجل إنفاذ ما نؤمن به، أمّا ألّا يكون سوى عقد الأكفان وترتيل الوصايا والبحث عن سجلات الخالدين، فهو ضياع كبير وتضييع للأمّة ومواردها، وفتح الباب للّصوص ودعاة الموت والخراب لكي يتاجروا بشعاراتنا، ويبيعوا قضيتنا في سوق نخاستهم. والثمن من دمائنا ومستقبلنا وطيشنا وحماسنا.
منذ أول يوم، وأول خطوة في هذا الطريق كنّا نعلم أننا لا نمتلك خيارات كثيرة، كانت الحياة قد فتحت أبوابها في طريقنا، فقررنا بملء أرادتنا أن نُوصد تلك الأبواب، لم تكن لتغرينا أبواب الأقفاص المزركشة، لم تكن رفاهية العيش والطعام بين قضبان العبودية المذلة لتثني أجنحتنا عن الطيران، كان للتحليق ثمن .. فالصيادون في كل مكان، والبنادق التي تشتهي النيل منّا مُشرعة دائماً، ولم يكن في الفضاء الشاسع الجميل ما على الأرض من فتات السادة الذي كنّا نسدُّ به رمق جوعنا، .. كان علينا أن نقاتل لنأكل بعزة وكرامة، أن نواجه البنادق، أن نهبط مراراً في مخاطرة جنونية من أجل أن ننعم بحريتنا المشتهاة.
تطاول الألم علينا، فاضت دماؤنا مراراً، تساقطت المدن التي نحبها واحدة تلو الأخرى، تيتمت صيحاتنا وأغنياتنا منذ ولادتها، وكلما زادت أعدادنا، زادت أعداد الصيادين أضعافاً، وزادت حصة الموت من أرواحنا وأجسادنا الغضة. وكلما أمسكنا يداً لنزداد بها قوة، هوت بنا إلى حيث المقصلة، كنّا نموت بالآلاف، بعشرات الآلاف، بمئات الآلاف، لكننا كالقَدر لم نكن لننتهِ، ولم تكن أجنحتنا لتستكين.
إنَّ القضايا العادلة لا تقع على عاتق أبنائها فقط، بل هي أمانة في أعناق جميع الذين يحملون قيم العدالة والخير والحق والحرية.
المعارك ستستمر .. والميدان لمن يثبت حتى النهاية، ونحن .. جميع من على هذه الأرض، رغم كل الخسارات المؤلمة حدّ الفجيعة، لم نُهزَم، مازالت العزائم في فورتها الأولى .. تشحذ بنار الثورة، ودَين الدماء، وأمانة الوصايا، وصوت الرسالة، وعشق الوطن.
على هذه الأرض لا خيارات جميلة، وأولئك الأبطال الذين قرروا القتال يعرفون جيداً أنهم لا يراهنون سوى على عزيمتهم التي شدّهم الله بها وخلقهم من جبالها الراسخة.
جباههم لم تألف الذل على استطالة العذاب، وقلوبهم قد تجذرت فيها الرسالة التي يعيشون لأجلها، فلم يقدر الموت على سلبها مهما تعاظم في طريقهم، يعلمون جيداً أنهم يقاتلون ويكافحون اليوم في آخر أرض لهم، تخلى عنهم الجميع، وأُوصدِت كل أبواب الأرض من حولهم، ولم يعد أمامهم إلا الاستسلام أو المواصلة حتى يقضي الله أمره، وقد وثقوا بالله وأمره، وقرروا الصمود في سبيل ما يؤمنون به.
لا دار أخرى يرحلون إليها لا أعشاش تأويهم، ولا أرض تغري أجنحتهم بالسكون، إن التحليق في سماء الحرية غريزة الأجنحة، وإلا لماذا خلقنا الله على هذه الهيئة؟!
ليس نضالنا في سبيل الحرية شيء نستطيع اختيار تركه، إنما هو قدر يلازم جباهنا الساجدة لربها، وأفئدتنا الساعية لرضاه، إمّا أن نبلغه أو نهلك دونه، ونحن الذين لم نخلق لشيء إلا لأجله، فليس في رسالتنا حياة بلا غايات عظيمة وأهداف كبيرة، وأسمى تلك الغايات وأعظم الأهداف هي إعادة الكرامة الإنسانية للناس جميعًا، ذلك الشيء الذي تميز به البشر، وكّرم الله به الإنسان (الحرية) إرادة الاختيار الخالصة، فبها وحدها امتلك الناس كلّ ما يُوجب نفاذها فيهم من عقل وقلب وحواس كريمة.
هذه هي الحرية التي وضعناها نصب أعيننا يوم صرخنا من أجلها منذ عشر سنوات، ما خبا بريقها، ولا تغير الإيمان بها، وهي اليوم في نفوسنا متقدةٌ بعزم الأيام الأولى، لا تنال منها هزيمة ولا يحط قدرها انكسار، وإننا لن نحيد عن هذا الطريق مهما طال به الزمان، فهو كما أسلفتُ غاية الخليقة وبغية الدنيا وعاقبة الآخرة حتى يرضى الله.
لا ينبغي للثورات أن تهدأ إذا لم تعانق غاياتها، ولا ينبغي لها أن تستمر إن صارت هي الغاية، فالثورات لا تصلح لتجديد العهد، إنما نجدد العهد على ما كانت الثورة في سبيله، والثورة التي لا تدرك وجهتها هي رحىً تطحن أبناءها، وفوضى تعصف بهم