لم أكن قبل اليوم متابعاً جيداً لكرة القدم، ولم أصبح كذلك بعد، ولكن بعض الأحداث تجبرك على المتابعة لأنها لا تحتوي حدثاً واحداً، وإنما تنطوي تفاصيلها على الكثير من الأحداث المهمة التي يصبح معها الحدث الرئيسي تفصيلاً كبيراً، ولكنه ليس كل شيء،، هكذا يبدو مونديال قطر 2022، مناسبة عالمية لرياضة كرة القدم، ولكن في الحقيقة استطاعت قطر أن تجعل منه مناسبة ثقافية فريدة للتعرف على الثقافة العربية الأصيلة وجذورها الإسلامية الممتدة في الشرق والغرب.
رغم ان مساحة قطر تساوي أو أكبر قليلاً من مساحة بعض المدن العربية، إلا أن اللجنة المنظمة استطاعت أن تعكس في هذه المساحة فضاء واسعاً ومتنوعاً من المجتمع والثقافة العربية والإسلامية، كما استطاعت أن توفر فضاءات أخرى لتتفاعل مع الثقافات الوافدة إلى المونديال، لتصبح قطر منصة عالمية تتفاعل فيها الحضارات باحترام متبادل لمدة شهر كامل.
منذ اللحظة الأولى التي قررت فيها حكومة قطر تسليم ملف كأس العالم إلى اللجنة العليا للمشاريع والإرث، كان واضحاً جداً أنها تريد كأس عالم بهوية خاصة، بعيداً عن العالمية والعولمة، وأدركت قطر أن هذه الهوية لا يمكن أن تكون هوية قطرية فحسب، لأن الهوية القطرية كما بقية هويات المنطقة، هوية سياسية ضيقة ذات بعد واحد فرضتها ظروف جيوسياسية معينة، فقررت التعبير عن الهوية الأصيلة للشعب القطري وشعوب المنطقة، هوية خليجية عربية إسلامية شاملة تنتمي لأمة تمثلها قطر في هذه المناسبة العالمية لا إلى دولة صغيرة بدون امتداد حضاري كبير.
ورغم عولمة اللعبة والضغط الثقافي والإعلامي الكبير الذي تمت ممارسته على قطر، إلا أن كل ذلك لم يزعزع الثقة بالنفس لدى القطريين، فأصروا على تقديم أنفسهم وثقافتهم كما هي دون تبديل أو تغيير، وتمكّنت العزّة والتفرد والثقة التي تقدمت بها هذه الثقافة للناس من خلق فضول لدى الجماهير للتعرف على هذه الثقافة وتجربتها في معظم تفصيلاتها، ومنحت قطر العرب والمسلمين هذه الثقة ليقدموا أنفسهم من خلالها كما هم في الحقيقة، وربما للمرة الأولى دون تأنق مزيف يحاول أن يجاري ثقافات عالمية لا ينتمون إليها.
فما كان متوقعاً هو أن تشبه قطر العالم تماهياً معه في هذه الأيام، فالبطولة عالمية وغربية في الأصل، ولكن الذي حدث أن العالم بأسره عاش تجربة أن يشبه قطر ويعيش ثقافتها العربية الإسلامية في هذه الفترة.
لم تفتح قطر أبوابها لأبناء ثقافتها وعمقها الحضاري في هذه البطولة لكي يشاركوا في الظهور والتفاعل مع الثقافات الأخرى فحسب، وإنما تحملت تكاليف إضافية لدعوتهم واستضافتهم، وقدمت لهم كل الدعم اللازم لكي يقدموا أنفسهم ودينهم بأفضل طريقة ممكنة.
لقد تكلفت قطر المليارات من أجل هذه الاستضافة، ولكنها لم تتعامل معها كاستثمار تجاري أو رياضي فقط، وإنما حولتها إلى استثمار ثقافي كبير، تفوق قيمته ما تمّ انفاقه في التكلفة، ولأول مرة يرى العالم الغربي أنّ كل ما انفقه من وقت طويل ومال كثير من أجل عولمة ثقافته ونشرها وإثبات تفوقها على الثقافات الأخرى وتعاليها عليها، بدا وكأنه جولة عابرة، استطاعت قطر اختزال جزء كبير منها في استغلال هذا الحدث العالمي لتقدم إحدى أعرق حضارات العالم اليي تنتمي إليها قطر، لا حضارة قطر، واستطاعت أن تُشعرنا نحن بهذا الانتماء الكبير لما يحدث في قطر.
اعتقد أن العالم بعد مونديال قطر سيختلف عمّا كان عليه قبل المونديال، وأن التفاعل الحضاري بين الشرق والغرب سيسير خطوات للأمام، وأن الشعوب الغربية ستصبح اكثر معرفة بالإسلام والمسلمين وسينخفض تأثير الإسلاموفوبيا بشكل كبير، كما أن الصورة النمطية عن العرب والمسلمين والشرق عموماً ستتغير إلى حدٍّ كبير في أذهان الناس، وستبقى ذكرى المونديال في وجدان العالم لسنوات كثيرة، وسيكون الحديث عنه كتجربة حضارية أهم بكثير من نتائج كرة القدم التي سيفضي إليها.
إننا أمام حدث عالمي مختلف جداً، ومتميز جداً، وأمام تجربة فريدة تحدث هذه الأيام تستعاد فيها لحمة الأمة على المستوى الثقافي والوجداني، استطاعت من خلالها قطر أن تعيد ضخ الدماء في جسد الأمة، وأن تعيد رسم تماسكها من جديد بذهنية منفتحة، ذهنية عالمية فريدة، تدرك أن العالمي الحقيقي هو في الجذور الحضارية العالمية للبلاد وليست للمساحة الجغرافية مهما ضاقت أو اتسعت، ذهنية تدرك القيم الكبرى للانتماء وتدرك كيف تكون كبيراً وقوياً عندما تتمسك بالإرث والجذور، فتستطيع أن تعبر عن ألف وخمسمئة سنة وأكثر من مليار إنسان في لحطة واحدة وفارقة.