لعلّ من المفارقة أن تحتفي الأمم المتحدة باليوم العالمي للعدالة الدولية 17/ تموز، بينما العدالة الدولية بحالة احتضار، بالنظر إلى حجم الفظائع المرتكبة والصمت الدولي تجاهها في سوريا وغزة وأوكرانيا والسودان وغيرها.
فالمأساة السورية تدخل عامها الرابع عشر ليزداد معها شعور الخيبة لدى السوريين تجاه المجتمع الدولي نتيجة الخذلان المستمر والعجز عن التوصل إلى حل ينهي تلك المعاناة الطويلة، ويمنح الأمل في المساءلة ومحاسبة المجرمين.
ويبدو أن الحل المنشود يتعارض مع مصالح الدول ولاسيما المعنية بالملف السوري، وهو ما دفع رئيس لجنة التحقيق الدولية المعنية بسوريا باولو بينيرو إلى أن يعبر عن خيبته الكبيرة في كلمته التي ألقاها بتاريخ 3 تموز 2024 أمام مجلس حقوق الإنسان في دورته السادس والخمسين حيث أكد أنه لا نهاية في الأفق لانتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب في سوريا، للتدليل على حالة إنكار العدالة من قبل المجتمع الدولي تجاه الفظائع المستمرة منذ سنوات في سوريا.
فقد انتهجت الدول الفاعلة في الملف السوري سياسة تجميد الصراع السوري وهو ما انعكس سلباً على ملف العدالة والمساءلة وسمح بإرساء ثقافة الإفلات من العقاب بعد سنوات من الفظائع.
اقرأ أيضاً: تعديلات قانون الجرائم الدولية الألماني وتأثيرها على مجرمي الحرب في سوريا
إن نجاح تطبيق آليات العدالة الانتقالية ولا سيما الملاحقة والمساءلة يعتمد في الواقع بشكل أساسي على إنجاز عملية الانتقال السياسي في البلاد، حيث يمكن بعد ذلك اختيار آليات العدالة الانتقالية التي تتناسب مع السياق السوري، ولا شك أن العدالة الجنائية ستكون أهم الآليات نظراً إلى الحجم الهائل من الجرائم والانتهاكات المرتكبة في البلاد.
وقد اقتصرت جهود المجتمع الدولي ضمن سياق ملف العدالة الجنائية في سوريا لغاية الآن على:
إنشاء آليات توثيق الجرائم وجمع الأدلة:
تمثل ذلك في إنشاء لجنة التحقيق الدولية المعنية في سوريا بتاريخ22 آب 2011 بقرار مجلس حقوق الإنسان، تهدف اللجنة إلى القيام بعملية توثيق الجرائم والانتهاكات المرتكبة في مناطق البلاد من قبل جميع أطراف النزاع. ومنذ إنشائها فقد أصدرت اللجنة ثمانيةً وعشرين تقريراً كان آخرها في 11 آذار 2024، وقد مدد مجلس حقوق الإنسان عمل اللجنة عدة مرات كان آخرها في نيسان 2024 ولمدة عام كامل. ، وقد أكدت اللجنة في مجمل تلك التقارير على وقوع جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في كافة صورها المحددة في القانون الجنائي الدولي وعلى نطاق واسع، وفضلاً عن ذلك، تسعى اللجنة إلى تحديد المسؤولين عن تلك الجرائم والانتهاكات ما أمكن والحفاظ على الأدلة بغية تقديمها إلى المحاكم عند اجراء الملاحقات الجنائية في المستقبل. وقد كانت اللجنة -في كل مرة- توصي في تقاريرها بضرورة وقف الجرائم وتحقيق العدالة والمساءلة.
كما أنشأت الجمعية العامة للأمم المتحدة الآلية الدولية المستقلة والمحايدة في أواخر عام 2016 بهدف جمع الأدلة والمعلومات وحفظها وتحليلها كي تكون المستودع المركزي للمعلومات والأدلة لدعم السلطات القضائية التي تباشر المساءلة والملاحقة للمتورطين في ارتكاب الجرائم والانتهاكات، وكان لهذه الآلية دور في عملية المساندة عبر تقديم الأدلة لبعض المحاكمات الجارية من العديد من الدول استناداً لمبدأ الولاية الجنائية القضائية عن الجرائم المقترفة في سوريا كالمحاكمات الجارية في ألمانيا والسويد.
ولا بد من الإشارة إلى أن المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا هي آخر ما أنشأته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 حزيران 2023 للكشف عن مصير المفقودين وأماكن تواجدهم وتقديم الدعم للضحايا وأسر المفقودين، وما زال العمل جارياً على تحديد اختصاصاتها وولايتها وتكوينها وأساليب عملها.
ورغم تعدد الجهات التي تؤدي مهام التوثيق وجمع الأدلة والكشف عن الحقيقة إلا أن أبواب العدالة ما تزال موصدة في وجه اجراءات الملاحقة الجنائية لمرتكبي الجرائم والانتهاكات.
المحاكمات الجنائية الجارية في إطار الولاية القضائية العالمية:
تعتبر الولاية القضائية العالمية آلية إضافية مكمِّلة للمنظومة الجماعية للعدالة الجنائية تتصدّى من خلالها الدولة للجرائم الخطيرة نيابةً عن المجتمع الدولي، في الوقت الذي تكون فيه الدول المختصة قضائياً غير راغبة أو غير قادرة على القيام بذلك.
من هنا تقوم بعض الدول كالسويد وألمانيا بإجراء المحاكمات الجنائية بمقتضى الولاية القضائية العالمية لبعض مجرمي الحرب الذين فروا من سوريا ولجؤوا إلى تلك الدول، ولا يمكن إنكار ما تشكّله تلك المحاكمات من جهود هامة في مسار المساءلة والعدالة ومنع إفلات المجرمين من العقاب، إلا أنها تبقى ذات أثر نسبي محدود بالنظر إلى الكم الهائل من الجرائم والانتهاكات التي وقعت في سوريا، وبالتالي لا يمكن أن تكون بديلاً عن انشاء محكمة جنائية خاصة لمحاكمة المسؤولين الرئيسيين عن تلك الفظائع.
التضحية بالعدالة لحساب المصالح الدولية:
إن النظرة السوداوية لدى السوريين عن العدالة الدولية لم تتشكل من فراغ، فهناك العديد من حالات النزاع المريرة كانت فيها العدالة ضحية لحساب المصالح السياسية الدولية.
في كمبوديا ورغم سقوط حكم نظام الخمير الحمر عام 1979 لكن الأمم المتحدة انتظرت ثلاثة عقود حتى تم وقعت اتفاقية انشاء الدوائر المختلطة مع الحكومة الكمبودية عام 2003 وذلك بعد فوات الأوان حيث توفي المجرمون أو فقدوا أهلية المحاكمة.
كذلك في تيمور الشرقية التي تشكّلت فيها المحكمة الجنائية المختلطة بقرار من الإدارة الانتقالية للأمم المتحدة في حزيران من عام 2000 لمحاكمة مجرمي الحرب الأندونيسيين والمتعاونين معهم عن الجرائم المقترفة في تيمور الشرقية قبل استقلالها، حيث اضطرت المحكمة إلى انهاء عملها بعد خمس سنوات من انشائها، وقبل انجاز الملاحقة الفضائية بسبب عدم الاهتمام الدولي بها.
وأما في سوريا ما تزال العدالة رهينةً لصراع المصالح السياسية للدول، فمجلس الأمن الذي يتحمل المسؤولية الأكبر عن وقف تلك الفظائع، كونه المفوض عن المجتمع الدولي في حماية القيم الإنسانية وحفظ الأمن والسلم الدوليين ، لكنه يمر في أسوء فترة له بسبب الانقسام الحاد الذي يعصف به، مما انعكس سلباً على إحالة ملف الجرائم المرتكبة في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية، ومنع أيضاً انشاء محكمة جنائية خاصة بسوريا.
المحكمة الجنائية الخاصة في سوريا:
لا شك أن تحقيق العدالة الدولية ومحاسبة الجناة مطلب أساسي لكل السوريين، وهذا لا يتحقق إلا بإنشاء محكمة جنائية واختيار النموذج الأنسب ، هل ستكون محكمة جنائية دولية خاصة على غرار محكمتي يوغسلافيا ورواندا، أم محكمة جنائية مختلطة على غرار المحكمة الجنائية المختلطة في سيراليون وتيمور الشرقية والدوائر الاستثنائية المختلطة في كمبوديا.
يركّز الاختصاص الشخصي للمحاكم الجنائية الخاصة على ملاحقة فئة كبار القادة والمسؤولين عن الجرائم، بينما يُترك للمحاكم الوطنية ملاحقة الفئات الأدنى من المتورطين، وهو ما يُعرف بالاختصاص المشترك بين المحكمة الجنائية الخاصة والمحاكم الوطنية ، وقد نصت عليه جميع الأنظمة الأساسية للمحاكم الجنائية الخاصة، وبطبيعة الحال فإن الاختصاص المشترك يغدو حاجةً ضرورية في سوريا بالنظر إلى الحجم الهائل من الجرائم التي وقعت بمختلف أنواعها وصورها، الأمر الذي يتطلب إشراك المحاكم الوطنية للمساهمة في انجاز ملف العدالة ومنحها صلاحية النظر في الجرائم الدولية بالتزامن مع اختصاص المحكمة الجنائية الخاصة في عملية الملاحقة والمحاسبة.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على واتساب اضغط هنا
ولا شك بأن تطبيق الاختصاص المشترك يتطلب بناءً قدرات المحاكم الوطنية كي تكون قادرة على اجراء المحاكمات لهذا النوع من الجرائم، عبر اخضاع تلك المحاكم لبرامج الإصلاح القضائي والتأهيل الشامل وتعزيز خبرات قضاة الادعاء والتحقيق والحكم في مجال الجرائم الدولية، والاستعانة بخبراء ومستشارين دوليين واجراء دورات تدريبية متطورة.
تجدر الإشارة إلى أنه جرى في الأشهر القليلة الماضية مناقشات لمقترح انشاء محكمة جنائية خاصة بمجازر السلاح الكيماوي في سوريا، وتم عقد اجتماعات شارك فيها جهات حقوقية دولية وخبراء في القانون الدولي، حيث بحثت في جدوى إنشاء هذا المحكمة من النواحي القانونية والسياسية والمالية.
إلا أن إنشاء محكمة جنائية مختصة بنوع محدد من الجرائم دون غيرها سيؤدي إلى عملية التطبيق الناقص للعدالة، لأنه يعني غض الطرف عن مرتكبي باقي الجرائم والانتهاكات والتي يعتبر ضحاياها أكبر بكثير من ضحايا السلاح الكيماوي.
فضلاً عن ذلك، لم يحصل عبر تاريخ المحاكم الجنائية الخاصة منذ نورمبرغ وطوكيو، ذلك التقييد لاختصاصها الموضوعي بل شمل جميع الجرائم الدولية وهي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية. ولذلك يجب أن يشمل الاختصاص الموضوعي للمحكمة الخاصة بسوريا جميع تلك الجرائم.
إن تحقيق العدالة في سوريا يسهم على الصعيد الوطني في وضع حد لحالة الإفلات من العقاب، وتجاوز إرث الماضي ودعم جهود بناء السلام في البلاد، أما على الصعيد الدولي فيعتبر رادعاً لبعض الدول التي تنتهك القانون الدولي مما يعيد بعضاً من الهيبة للعدالة الجنائية الدولية.