من الكتب التي كانت سببًا في سحب الشهادة العالمية من مؤلفها وسببًا في عزله من منصبه في القضاء كونه كان قاضيًا، ومن الكتب الأكثر جدلًا في المئة سنة الأخيرة كتاب “الإسلام وأصول الحكم” لمؤلفه: (علي عبد الرازق).
بداية هذا الكتاب يتألف من 125 صفحة من الحجم الصغير والخط العريض، ويمكن أن يجمع على ورق عادي بحيث لا يتجاوز 35 صفحة؛ لذلك يمكن أن يقال عنه إنه كتيب وليس كتابًا.
الكتاب سهل العبارة ولا يوجد فيه تعقيد، بحيث يسهل قراءته بيوم أو يومين، ويمكن أن يقال عنه: إنه عبارة عن أفكار ألقاها صاحبها في هذا الكتاب أكثر مما يُقال عنه بحث علمي يعتمد على المصادر والمراجع، وقد صرح مؤلفه في هذا الموضوع في مقدمة كتابه بأنه حصيلة أفكار تراكمت عنده عبر سنوات تحولت إلى قناعات فوضعها في كتابه عبر مراحل متعددة.
السياق الزمني للكتاب: الكتاب صدر عام 1925 أي بعد سقوط الخلافة العثمانية بسنة، فقد كان الظرف عصيبًا على المسلمين، حيث عاشوا في هذه الفترة بتخبط فكري وسياسي واقتصادي كبير في جميع البلاد الإسلامية.
اقرأ أيضاً: جو بايدن يصدر أول مرسوم يخص السوريين
شكل الكتاب: الكتاب يتألف من ثلاثة أبواب، قسَّمه المؤلف إلى ثلاثة أقسام: (الخلافة والإسلام – الحكومة والإسلام- الخلافة والحكومة في التاريخ).
عرض الكتاب: الكتاب يدور حول فكرة رئيسة في البحث وهي أن الإسلام دين لا علاقة له بشؤون الدولة وترتيباتها، وقد حاول المؤلف التدليل على هذا الكلام من خلال السياق التاريخي للخلافة والأخطاء التي حصلت باسم الخلافة وعدم ذكر الجوانب التنظيمية في القرآن والسنة، وأن الني صلى الله عليه وسلم لم يختر أن يكون ملكًا، إنما اختار الرسالة على الملك، وأنه داعية إلى الدين وليس موكلًا على تنظيم شؤون الناس، فالناس أعلم بأمور دنياهم وإنما هو هاد.
وأما ممارسته صلى الله عليه وسلم للحكم فقد كان أمرًا طبيعيًا بمقتضى حضوره وشخصيته وليس أمرًا دينيًا، فالدين لم يهتم بشؤون السياسة، ويؤكد هذه الفكرة بأن الخلفاء من بعده هم الذين جعلوا الخلافة أمرًا دينيًا حتى يستطيعوا السيطرة على الناس وحكمهم، ويؤكد أن الحروب التي كانت من حروب الردة إلى الفتوحات كانت غايتها دنيوية وقد تم ربطها بالدين لغايات السيطرة والملك، ثم يدعو إلى جعل الإسلام دين لا علاقة له بأمور الدنيا ولا بتنظيماتها، إنما هي شؤون مدنية يتولى الناس تنظيمها بأنفسهم ولا علاقة للدين بها.
نقد الكتاب: المؤلف انطلق من قناعات مسبقة تبناها ودلل عليها من خلال اقتطاع بعض النصوص من القرآن والسنة دون النظر في باقي نصوص الشريعة وبرهن على أفكاره من خلال بعض الممارسات التاريخية للخلفاء، وأولها بما يخدم أفكاره المسبقة فضلاً عن أن الكاتب لم يأتِ بنصوص فقهية وفهم للعلماء، إنما اكتفى بفهمه وتأويله لهذه النصوص والأحداث بما يخدم قناعاته المسبقة.
اقرأ أيضاً: تصريح خطير ومفاجئ من بيدرسون حول سورية
وفي منهج المؤلف الذي اتبعه في الكتاب نظر، فمن شروط البحث العلمي الحيادية في مثل هذه الأبحاث أن يتخلى الباحث عن القناعات المسبقة وينطلق في رحلة البحث حتى يصل إلى النتيجة التي أوصلها إليه البحث، وهذه النتائج قد تكون موافقة لقناعاته فيتأكد منها ويبني عليها أو مخالفة لقناعاته فيتخلى عنها ويتبنى النتائج الجديدة.
وقد برهن الباحث على صدق أفكاره من خلال الممارسات التاريخية، وهذه الممارسات التاريخية ليست مصدرًا تشريعيًا، إنما أفعال بشرية يتخللها الخطأ والصواب ولا يجوز أن نستدل بهذه الحوادث التاريخية أو نجعلها دليلًا شرعيًا.
وممَّا يُعاب على الباحث أنه لم يأتِ بنصوص فقهية تؤيد أفكاره، بل الفكرة الرئيسة التي جاء بها وكانت محور كتابه هي أن الإسلام دين لا دولة وهذه الفكرة لم يقل بها أحد من السابقين منذ عصر النبوة حتى تاريخ كتابة كتابه؛ لذلك لم يستطع المؤلف أن يحضر النصوص الفقهية أو أقوال العلماء السابقين الذين يؤيدون كلامه.
وقد أشار المؤلف في كتابه إلى بعض اللفتات الجميلة، إلا أن مشكلة الكاتب في أمرين رئيسين هما:
1- أنه يسوق جميع الأدلة والأفكار لخدمة قضية واحدة رئيسة عنده وهي أن الإسلام دين لا دولة.
2- الاقتطاع من نصوص القرآن والسنة بما يخدم فكرته الرئيسة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “أنتم أعلم بأمور دنياكم” وقوله تعالى: “ولست عليهم بوكيل”، وقوله تعالى: “إنما أنت هاد” والاقتطاع من نصوص الشريعة إشكال كبير؛ لأن الشريعة كل متكامل لا يمكن فهمها بدليل واحد أو دليلين، وهذه النظرة القاصرة لأدلة الشريعة كانت سببًا في وجود الغلو والتكفير عند الجماعات التكفيرية أيضًا.
اقرأ أيضاً: وفاة المجرم عمر حميدة الذي قطع لسان معتقلة وجردها من ملابسها أمام أخيها
لقد كان الكتاب بعيدًا عن اللغة العلمية التوثيقية مقتصرًا على الأفكار التي أوردها الكاتب التي جعلها حقائق، وأعتقد أن سبب شهرة الكتاب كثيرًا هو كثرة الردود عليه من كبار العلماء، فقد أُلف من أجل الرد على الكتاب كتب ضخمة تبلغ المئات من الصفحات ومن علماء كثر، كأن العلماء وحدوا أن هذه الدعوى الخطيرة وهي دعوى أن الإسلام دين لا دولة لا يمكن السكوت عنها؛ لأنها توافق العلمانيين ودعوتهم في فصل الدين عن الدولة، وكانت في ذلك الوقت تؤيد فكر إلغاء الخلافة وأن الخلافة والملك أمر دنيوي لا علاقة للدين به وأستغرب كيف ترك المؤلف الكثير من الآيات التي تتحدث عن شؤون تنظيم البلاد من ناحية التشريعات الجزائية والتشريعات المدنية والتشريعات الاجتماعية والمتعلقة في الأحوال الشخصية التي استمدت منها بعض القوانين الغربية، حيث عدَّت الفقه الإسلامي مصدرًا من مصادر التشريع.
وممَّا يجدر الإشارة إليه أن هذه الدعوى التي صدرت من المؤلف لم يقل بها أحد من العلماء اللاحقين إلا (خالد محمد خالد) في كتابه “من هنا نبدأ” إلا أن خالد قد تراجع عن أفكاره في ذلك الكتاب بشكل صريح وعلني بعد ذلك، أما (علي عبد الرازق) يقال بأنه تراجع إلا إنه لم يُثبَت عنه ذلك.
ختامًا: من يقرأ الكتاب ولم يكن قد اطلع على علم السياسة الشرعية من قبل ربما يقتنع بالكتاب ويجده تحفة علمية مهمة رائعة، أما من تبحر في علم السياسة الشرعية سيستغرب سبب شهرة هذا الكتاب وكثرة الجدل حوله؛ لذلك أنصح من يرغب بقراءة هذا الكتاب أن يقرأ كتبًا في السياسة الشرعية مثل كتاب “من فقه الدولة” للقرضاوي، أو كتب (محمد عمارة) أو كتاب الشيخ محمد الغزالي “من هنا نعلم” ثم يقرأ هذا الكتاب حتى يكون منصفًا في محاكمة هذه الفرضية وهي: هل الإسلام دين ودولة، أم كما ادعى (علي عبد الرازق) في كتابه بأن الإسلام دين لا دولة!