تكلمنا في المقال السابق عن أهميَّة الرياضة في القرن الحادي والعشرين, والمنافع السياسية والاقتصادية التي تحدو بالدولِ إلى الإنفاق السخي عليها, كذلك وعرَّجنا على موضوع استضافة قطر لكأس العالم في نسخته السابقةِ, وما يشتمل عليه من مصالح مُغريةٍ لا تخلو من مخاطر عديدة قد تغضب العرب.
لكن ألا وقد نُظمت البطولة واختُتمت, وأسدلت الستائر عن الحدث وسُلم الكأس, وانصرف الأجانب إلى بلادهم مُعجبين, ورضيَ العرب عن أنفسهم بما كان, وتُكلم بإسهابٍ عن إبهار التجربة رغمَ المُعترضين, فلا مفرَّ بعدُ مِن سؤال: كيف استطاعت قطر فعل ذلك؟ وما هي الآليَّة التي صنعت بها نسختها الفريدة؟
ثمَّ هل انتهت الموجةِ العارمة من الشعور بالكفاءةِ والقدرة التي ماجت في صميم الانتماء العربي بقفلِ المونديال لتنقلب خيبة وعجزاً؟ أم أنَّ تلك التجربةِ فأل خيرٍ وخطوة أولى لإثباتٍ وُجوديٍّ للعربِ على مسرح الحياة العامَّة العالميَّة؟
المونيتور: التقارب التركي السوري على “طريق وعر”
في البداية وقبلَ انطلاق البطولة كانت هناكَ مخاوف عربيَّة جادَّة من تنازلاتٍ قطريَّة بلا حد في سبيلِ إرضاء الغرب, ذلك أنَّ العرب تعوَّدوا من حكوماتِهم المُستبدَّة الانبطاحَ العلني أمام الأجنبي والتذلل الفاضح له, وطلب رضاه والسعي الحثيث إلى إعجابه, بل والتملق له عبر إذلال الشعوب وقهرِها, وكأنَّ الطاغية المتعجرف يقول للإنسان الغربي: ” انظر أيها الأشقر الأبيض, أنا أدوس على شعبي المتخلف الذي يعلن الولاء الكامل لي وأحقره, فهل تحترمني بعد ذلك وترضى عني؟”
لقد رضيت الحكومة العربيَّة التقليديَّة سياسيَّاً أن تستغبي الشعب العربي في خطاباتها وتُريه ذلك, وتُلقي بآرائه في القمامة وتُعادي تعبيرَه عن نفسِه, وتنشر الانحلال في مجتمعه وتأخذه بالاعتقال والبطش لو أبدى رفضه, وتكذب عليه “على عينك يا تاجر” وتقتنع أنه لن يمانع, ولا ترى فيهِ إلا “كومبارس” ثانوي مهمته تلميع السلطة الطاغيةِ أمام العنصر الأجنبي الذي يملك وحدَه الحق في أن يُعجب أو يَكرَه أفعال الحكومةِ, وأما العربي فلا يملك إلا التصفيق وهو مدعوس.
ولكن قطر خالفت الموروث الاستبدادي وجاءت بما لا تجرؤ عليهِ حكومات القمع التخويفي, فبنت تنظيمَها على إراءةِ العربي اهتمامها به وإكرامها له, فخاطبته بلغة احترام وتوقير مختلفة عن “قرد ولاك” و”ما بتجو غير بالصرماية”, وسعَت في كل حركةٍ تنظيميَّة إلى نيلِ إعجابه وإشعاره بوجوده وأهميَّة آرائه, وكانت في ذلك تعلم أن العربَ لا يهنأ لهم بال ولا يركنون إلى رضىً إلا إذا قُدِّمَ دينهم وخُدِمَ, فأظهرت لهم خدمتَها للإسلام والتزامَها بحدودِه, فمنعت الدخولَ إلى المُدرَّجات بقوارير الخمر ولافتات الشواذ, وروَّجت بين المشجعين للِّباسِ المُحتشم, وحين افتتحتِ البطولة طيَّبت خواطرهم بتلاوةِ آياتٍ من القرآن الكريم, وعرضت عليهم عبر فيلمٍ قديم الأمير الأب وهو يصلي في شبابه, حتَّى كأن صلاته هي التي ساقته إلى نجاحه, واستحضرت الدعاة العالميين من كل حدبٍ وصوَّرت إسلامَ البعض على أيديهم, ونشرت مناشير دعويَّة رصدتها الكاميرات, وافتخرت بالشعائر الإسلاميَّة والتراثِ الديني, وخصَّصت مساجد في الملاعب, ودعمت المرأة العربيَّة في التباهي بحجابها وحشمتها حتَّى في الحفل الموسيقي نفسِه, وقدَّمت من المشاهير من جاهر بالانسجامِ مع الثقافةِ العربيَّة, وأرت شجبَ وعدم ترحيب العرب لإعلاميي الصهاينةِ, وأثبتت وجودها الانتمائي بما لم يتجرَّأ على مثله متنطعوا العروبةِ مِن سلطويي نهبِ البلاد وإذلال الشعوب.
كما عملت قطر على إظهار العربي للبشريَّة بهيئةٍ مُختلفة عن الصورة النمطيَّة التي ما برحَ الإعلام الغربي يرسمه بها, فليس العربي المرئيُّ في المونديالِ ذلكَ الجاهل الذي لا يفقه من أمر الحضارةِ شيئاً, ولا ذلك الشهواني الذي لا يوجهه إلا فرجه, ولا ذلك المُساق كالنعاجِ الذي يتفاخر مَن يحكمُه بمقبوعيَّتِه, بل هو ذلك الطامح الممتلئ المفتخر بحريَّته وانتمائه, الذي يُسعى لنيلِ إعجابه.
أبرزت قطر الهويَّةَ العربيَّة حتى أدق تفصيلٍ في تنظيمها المونديال, ووضعت بصمة الثقافة العربيَّة القطريَّة على كل جُزئيَّة ممكنة, فدونك هيكلة الملاعب, وتصميم مُلحقات التنظيم كشعار المونديال وتميمته وأغانيه وإعلاناته وغير ذلك مما خوطبت به الأعاجم, ودونك تصوير مشاهد الكرم العربي على أنواعه, فهذا يُضيف وذاكَ يرفد, ودونك تمكين العوائل العربيَّة بملابسها التقليديَّة من الجلوس في المقاعد الأمامية المواجهة للكاميرات, وترويج لبس الشماغ العربي بين المشجعين العالميين, بل وتكريم اللاعب المشهور ميسي بإلباسه العباءة أو البشت القطري في أهم لحظةٍ في التنظيم وهي لحظة تسليم الكأس, وغير ذلك ممَّا ولجَ إلى لا وعي المليارات حول العالم, ممَّا قد يساهم بقوَّة في تغيير الصورة النمطيَّة عن العرب عند شعوبٍ كثيرة.
مونديال كأس العالم بالنكهة العربيَّة: الدوافع, والتجربة, والنتائج
بل ولعلَّ أفضل وأبقى ما خوطِبت بهِ العقولِ العالميَّة عن العرب أنهم قوم يدافعون عن الفطرة البشريَّة, ويشجبون الشذوذ والانحراف, إذ على حين راحَت شعوب وأديان تتنازل عن مبادئها وتدعم شاذين على وقعِ ضغط العولمة برئاسة العالم الغربي, تقدَّم العرب بكل شجاعةٍ يحدو بهم الشعور الديني ليُنافحوا عن معتقداتهم ومبادئهم, وليقولوا “لا” للشذوذ, حتَّى صاروا في الحقيقةِ هم المُحامي الفعلي للفطرةِ في الأرض, وذلك مكسب كبير لهم في خدمة دينهم ومبادئهم.
كما أنه مما ساهمَ في استثنائيَّة هذا المونديال العربي وعاد على العرب بمعنوياتٍ كبيرة تفوقُ المنتخب المغربي ووصوله إلى أدوارٍ متقدمةٍ فيه, حتى توحَّدت الشعوب على تشجيعه, وتشابكت الأيدي العربيَّة على مختلف ألوانِها تزف نجاحاتِه, وتحرَّكت الألسن من المحيط إلى الخليجِ تبث ألوان الفرح والشجون, لا يفرق بينها حدود ولا أولوا كراسٍ وكروش, واستطاعت الرياضة فعلَ ما تتجنبه السياسة, حتَّى تأكَّد أن حِسَّ الجماعة يسري في هذه الأمَّةِ مسرى الدمِ في الجسدِ, وأنَّ الرغبة الكامنة في عمق الصميم العربي الرانية إلى الوَحدة وعِز التكاتف لا تزال تغلي في الكيانِ الشعبوي, فلا النفوس الأبيَّة تغيَّرت, ولا رغبة الصدر دون العالمين تبدَّلت, ولكن لربما قُمِعت بالغصب حتَّى لم تجد لها متُنفَّساً إلا الرياضة.
على أنَّ اللافت أنَّ تلك الوَحدة الرياضيَّة التي جمعت بين الشعوب العربيَّةِ قامت على الانتماء الإسلامي دون غيره من ضروب الروابط التي تتسابق الأمم إلى شبك أبنائها عبرَها, فلم يستهوي العرب الهدف بقدر السجدةِ التي تلته, ولم تهتزَّ قلوبهم لهتافاتِ الوطنيَّات وشعاراتِ القوميَّات بقدر ما اهتزَّت لإشهارِ اللاعبينَ سبابَّة التشهُّدِ عند الفوزِ أوقراءَتهم الفاتحة قبلَ ضربات الجزاء, بل حتَّى لحظات الفوزِ الترفيهيَّة شبَّهها العرب بكل عفويَّة بالفتوحات الإسلاميَّة التي أنارت الأرض في الماضي, وكأنَّ فيهم رغباتِ عزٍّ دفينة تتلمَّس بصيص الأمل في سبيلِ إعادةِ تلك الأمجاد الفعليَّة السالفة, فكان أن نطق العرب لاعبين وجماهيرَ بكل عفويَّةٍ بالحقيقةِ الأبديَّةِ الظاهرةِ في تقلب العصور وتعاقب الدهور؛ وهي أنَّهم قوم لا يجتمعون إلا على الإسلام, ولا تقوم لهم قائمة إلا إذا رجعوا إلى دينهم فنشروا السلام.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا
اختُتِمَت البطولة وطُويت صفحتها فيما تطويه الأيَّام, وعلى الرغمِ من حيثيَّاتِ التنظيمِ التي كانت لتُسخطَ الغربَ أيَّما إسخاطٍ في الحالة العاديَّةِ إلا أنَّها مضت بهدوءٍ وخلَّفت أصداء إيجابيَّة في الأوساطِ العالميَّة, والحق أنَّ ذلك ليس بمُستغرَبٍ, إذ أنَّى للأجنبي الذي ربحت شركاته الأموال الطائلة على مدار سنواتٍ في هندسةِ الملاعب وإعمارها, ورسم معالمِ الأرض وشق أنفاقها, وتصميم مُلحقاتِ البطولةِ –حتَّى دمية التميمة- وحصدِ خيراتها؛ أن يستاء لاشتراطاتٍ تنظيميَّةٍ لا تدوم أكثر من شهرٍ؟! لن يمتعض لذلكَ بل سيكسب.
هذا بالإضافة لما خوطبَت بهِ شعوب الأرض مما تفقهه من لغة الرأسماليَّة والإسراف حتَّى اطمأنوا لما ألفوه من أمرها؛ كتلك الملايين التي صرُفت على مائعي المُغنين ومُسترجلاتِ الراقصات, وغير ذلكَ ممَّا دُفِعَ على وجوهِ الرأسماليَّة الناعمة, وما ظهرَ من ذلكَ لا يعني أنَّه كل شيءٍ.
فمِن ذلك ينبغي إدراك أنَّ ما أنُجزَ للعرب ثقافيَّاً وأخلاقيَّاً في المونديالِ لم يكن غصبَاً وتحدياً للدول الأجنبيَّة القويَّة مما يثير عداوتها التي لا تقوى عليها دول الإسلام المتشتتة, بل كان عن مُراضاةٍ ومُعاملةِ مصالح متعددة, ووقوع ذلك ليسَ بالضرورةِ أن يلغي تلك الحسناتِ الوفيرة التي عادت على العرب, بل الحق أنَّ العربي خرج من التجربةِ بمشاعر الفخر والعز أنْ قد فرضَ تعاليم دينه على الأنامِ, مُقدِّراً لذاته وانتمائه رَغم أنف طواغيت الحُكَّام, يحلم ويعجب ويعبر عن نفسِه ويمارس حقوقه كإنسان, فلا ينبغي ولا يصح تعطيل تلك المردودات على الشعور العربي بتتبع مصالح العالم الغربي من تنظيم البطولة وتضخيم سوءاتها, حتَّى تتحوَّل إلى بلطجي تشبيحي يختطف بهجة العربي ويطعن مشاعر الفخر عنده.
كلا وألف لا.
لقد قبلَ العرب أمامَ البشريَّة تحدي استضافة كأس العالمِ فما رضوا إلا أن يتصدروا, فأعطوا وأنجزوا واستمدحوا وأخذوا, وأظهروا لأنفسهم والعالمِ طبيعتَهم الدافعةِ إلى السبق التي لا تزول حتَّى وإن كمنت فترة لتشرذمٍ وخفيت, على أنها طبيعة لا تقنع بإنجاز كروي وهمي محدود وفتات مديح مَصلحِي, ولكنَّها طبيعة منطلقة لا تسكن حتَّى تُزيح عن الكونِ ظلامَ الجور الذي طغى وتملأه بالعدل الذي بالنبوَّةِ جرى, ولن يهدأ لها بال أو يقرَّ لها قرار حتَّى تصبغ المعمورة بأنوار سلامِ رسالتها الأبديَّة, وتنتشل البشريَّة من مستنقع الضياعِ إلى روضةِ الهدايةِ عبر المشي بالحقيقة المهدويَّةِ الآتيةِ, وأمَّا ما عدا ذلك فمحض تقوٍّ على ما بعده.
مضت البطولة وتوقدت العروبة, وحنَّ العرب إلى أيَّام كان يُجبى لهم فيها الدرهم والدينار, ويُتفاخَر فيها بالحديث بلغتهم والتهندم على شاكلتهم, فهل سيعودون عبرَ عقولهم وزنودهم إلى تلك الأيامِ الخوالي, أو ستُثقِلهم بطونهم عن الحركة وتُقيدُ أعناقَهم جيوبُهم المحشوَّةِ بدراهم الرأسماليَّة المُعكَّرة بعكر الذل والهوان؟
ذلك مرجعه إلى إرادةِ العربي, فلنرتقب إرادته إلى أين ستتجه, وعزمُه فيما سيُصرف, والأيَّام كفيلة بإجابة المُتسائلين, فدعِ الدهر يتكلَّم, واحرص على أن تكونَ أنت من كلماته الجميلة البليغة.