قبل أيامٍ معدودة شهد العالم احتفاليَّةِ تسليم كأس العالم في قطرٍ, في ختام بطولة كرويَّة فريدةٍ انطوت على كثير من المفاجآتٍ والأحداث, ولم تكن في نهاياتها أقل إثارةٍ للجدل والخلاف من بداياتها, وخاصَّة في الأوساط العربيَّة التي انقسمت من أوَّل الأمر ما بين رافض للاستضافةٍ من أصلها وراغب, ومُصفقٍ راضٍ عن التنظيم ككل ومصفرٍ ساخطٍ, وما بين من اعتبر التجربة إنجازاً كبيراً للعرب ودعا إلى الاستفادة منها لتحقيق مزيد من الإنجازات, ومن رأى فيها خسارة جديدة لا ينبغي الاغترار بها وسارَع إلى التحذيرِ من مساوئها وشرورها, وبين هذا وذاكَ بقيت التساؤلاتِ مائجة في جو الرأي العربي العام.
ضمن ذلك الجو المشحون بالحيرةِ رأينا البعض يتسائل مُستنكِراً: “وما الحاجة أصلاً إلى الرياضةِ حتَّى تُعطَى كلَّ هذا الاهتمام, وتكون مسرحاً للجدال والنقاش؟ وهل خويت جعبة العرب من مصائب وطامَّات تُشيب الرأس حتى تكون مادَّة حديثهم خرقة مُدوَّرة شيطانيَّة تسرق عقول الرجال ليلاحقوها من طرفٍ إلى طرف؟ أليس أولى بهم أن يهتمُّوا بقضايا الأمَّة بدلاً مما لا طائل منه؟” يقولها هازّاً رأسَه بسُخطٍ, في حين يقضم ولده من بسكوتة راعية للمونديال بنهمٍ.
سؤال جيد ومنطقي فيما لو قصِدت به الرياضة لذاتِها, أي ما تدور حوله من أهداف وبطاقاتٍ صفراء وتسلل وغير ذلكَ, إذ بالفعلِ تلك أشياء لا طائلَ من ورائها إلا الترفيه والترويح عن النفسِ, ولكن لو كان الحديث عن آثار الحركة الرياضيَّة في الحياة العامَّة للبشريَّة؛ فذلك مبحث بحاجة إلى تفصيلٍ.
الحكومة المؤقتة تنفي طرح فكرة المصالحة مع الأسد على قادة الفصائل
في أوَّل عهدها كانت الرياضة وخاصَّة كرة القدم مجرَّد نشاطٍ ترفيهي, تعود بالنفع الجسدي والنفسي على ممارسها والترفيه على مشاهدها, يهرب إليها المرء من ضغوطات الحياة العمليَّة وتعقداتها ليصفي باله, ويتخلص من أي طاقاتٍ سلبيَّة خنَقَتْه ولم يجد لها تصريفاً, وبذلكَ لم تكن الرياضة بدعة عصريَّة, بل هي قديمةٍ بقِدَم تحدياتِ ومشقَّات البشر, وإن اختلفت حيثيَّاتها من مجتمعٍ لآخر.
ولكن بعد صعود الرأسماليَّةِ ودوران العالَم حولَ الماديَّة جدَّ جديد في شأن الرياضة, فزُخَّت الأموال فيها بغير عدٍّ وهُوِّلَ حولَها حتَّى صارت مركز استقطاب رهيب تصفُّ آلافِ البشر في ملعبٍ واحد, وتستأثر بمتابعةِ الملياراتٍ منهم خلف الشاشاتِ؛ لتُقدمَهم على طبقٍ من ذهبٍ لأصحاب الأيدلوجيَّات ومُنتجات البيع, فتحمَّلت وحُمِّلت على إثرِ ذلك غاياتٍ أبعد بكثير من مجرَّد الترفيه, وارتبطت بالسياسةِ والاقتصادِ أيَّما ارتباطٍ, حتَّى صارت مروَجة لما يُتبنَّى من الفكَر ويُشترى من السلع, ومفقسة للتوجهات المُراد تعميمها على البشريَّة, ومنصَّة للسيطرة على حالة العولمةِ وتوجيهها, ومخيطة لحبائل شُرُك السياسةِ وتداخلاتها, ومُقولِبة النظرات الجاهزة عن الأمم والملل, وبالطبع وسيلة مهمة للتعارف الثقافي بين الشعوب المتباعدة.
وبالتالي وعلى الرغمِ من صغرِ أولها خطُرَ آخرُها, وصارت ذاتِ أهميَّة تُطلب متابعتُها بعينِ المُوَجِّه لا محض المُتأثِّر, ولم يعد بالإمكان إغماض العينِ عن دورها وتأثيرها إلا لمن اعتاد على أن يُقتَاد, فلزم على أي دولةٍ مُدركةٍ للتحديات أن تُشاركَ في توجيهِ الرياضةِ لحمايةِ نفسها ومنفعتها, إن لم يكن بشكلٍ كامل فبقليل, ولهذا سعد مَن سعد باستضافةِ دولة عربيَّة لأهم حدثٍ رياضي على الإطلاق.
استضافت دولة قطر كأسَ العالمِ لكرة القدم رَغم مُحاربةٍ من دولٍ غربيَّة سال لعابها على عائدات ماديَّة, وساءَها أن تستأثر بالتنظيمِ دون وصايتهم دولة شرق أوسطيَّة, فأكثروا عليها التشويه وبالغوا في التزوير, ولكنَّ قطرَ تمسَّكت بما تملَّكت من حق التنظيم, ولم تغب عنها مكاسبه على المدى القريب والبعيد, خاصَّة في نطاقي السمعةِ السياسيَّة والحركةِ السياحيَّة, حيث سيَفِد إليها القاصي والداني, ويحضر بين ربوعها دهاة الساسةِ, وحيتان المال, فتُرى في المجتمع الدولي دولة مُستقلَّة حكيمة, وبالتالي تصون استقلالها, وتدفع عن حدودها -وبالأخصَّ عن ثرواتها الباطنيَّة- تطاولَ دولٍ كبيرة مُجاورة, وهذه لوحدِها جديرة بأن تنفق في سبيلِها المليارات وَفق السياسة الحاليَّة, كما أنَّه سيُستَقلُّ طيرانُها الذي سيُعَرَّف بأنَّه الأفضل, وتُستأجر فنادقُها التي سيُعلَن أنَّها الأفخم, ويُشترَك في منافعها التي ستُصوَّر على أنَّها الأروع, وسيقدُمها المشهورون من كبيرٍ وصغير وهم على ثقة في أمنها, متباهين بتصوير معالمها, والتزحلق على رمالها, مُقدِّمةً نفسَها كوجهةٍ سياحيَّة آمنة ومرغوبة, هذا بالإضافةِ إلى مصالح عديدةٍ مُتوَقَّعة غير ذلكَ.
بالطبعِ فمثل تلك المصالح والمنافع يمكن أن يُغري أي دولةٍ فتقبل في سبيلها بأي اشتراطاتٍ تنظيميَّة من الفيفا, وتقدم برحابة صدرٍ تنازلات دينيَّةٍ وثقافيَّة مما تستدعيهِ ثقافة العولمةِ, خاصَّة إذا كان شعبها دنيويَّاً مُساقاً كالقطيع بما يُشاهده من إنتاجات هوليود.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا
على أنَّ دولة قطرَ دولة مُسلمة عربيَّة تُدرك مِن نفسِها أنَّ العربيَّ شَهْم يأبى المنافع العكرة, ويرفض أيَّ مصلحةٍ دنيويَّةٍ إذا كانت ستُفسِد عليهِ دينه وأهله, كما ولا يفخر إلا بما يراه نصْراً لإسلامِه وقضيَّته, فأنَّى له ألا يشعر بالخداع ويُعلنَ السخط إذا ما سمع كؤوس الخمر تُقرَع بين المسلمين في المُدرَّجاتِ, أو شاهد شارات الشواذ تُرفرف عند ركن الملعب وتُحيط بأعلى الأعضاد, أو وجد الصهاينةِ مُحتلي الأرض مُرحَّباً بهم في بلده, أو صادف أيادي الربا والميسر تتراهن في شوارع حيِّه, أو طغى على خاطره ما يجري قربَه في الفنادق من مُنكَراتٍ تكاد تتفطرن منها السموات, أو تذكَّر ما حُرمَه فقراء المسلمين والدعاةُ وصُرِفَ على اللهوِ من أموالٍ على منوال فلسفة الإسرافِ! كلا وألف لا, يستحيل عليهِ أن يرضى بمثلِ الخبائثِ حتَّى ولو سيقَ إليهِ متاع الدنيا كاملاً.
وبالتالي فقبول دولةٍ مُسلمة عربيَّة باستضافة رياضيَّة على المقاساتِ العولميَّة هو عبارة عن انتحارٍ شعبويٍّ ليسَ من الحكمةِ إرادة حصولِه, كما أنَّ فرضَ الإرادةِ المُخالفةِ على العولمةِ غصباً وتحدِّياً بما يُثير غضب القوى العالميَّة ليس خياراً جيِّداً في زمن ضعفِ المُسلمين وتشرذمهم.
وعلى هذا فباستضافتها لكأس العالمِ وضعت دولة قطر نفسَها في تحدٍّ مهولٍ أمام الرأيينِ العربيِّ الشعبويِّ والعالميِّ العولميِّ, حتَّى وكأنَّه لا سبيلَ لإرضاء أحدهما إلا بإسخاطِ الآخرِ, فكيف تعاملت بعدُ مع هذا التحدي؟ وما هي الآليَّة التي اتَّبعتها للخروجِ ببطولةٍ مهولةٍ مرضيَّة على مختلفِ الأصعدةِ؟ هذا ما سنتعرَّف عليه في المقالِ التالي إن شاء الله تعالى.