منذ ساعة تقريباً انتهيت من حضور ورشة أو حلقة نقاش بعنوان ” دور وسائل الإعلام السورية المحلية المستقلة والمجتمع المدني في التماسك الاجتماعي والتعافي المبكر” وذلك على هامش مؤتمر بروكسل الثامن لدعم سوريا والمنطقة.
وجرت معظم المداخلات والنقاشات حول العوائق التي تمنع وسائل الإعلام من أن تلعب دوراً حقيقياً وفاعلاً في التماسك المجتمعي، وفي مقدمتها التمويل وقوى الأمر الواقع، والتجاذبات السياسية المصاحبة لذلك، والصعوبات التي يعاني منها الإعلام المستقل في إيجاد مكان له في هذه المساحة المضطربة وغير المستقرة التي تعاني منها سورية والمنطقة عموماً، وجميع الطروحات ذات الصلة، وما تمّ إغفاله في هذه النقاشات على ما أعتقد هو شيء شديد الأهمية، يمثل أساساً لكل الإشكاليات التي تمّ تداولها في هذه الحلقة النقاشية، وفهم هذا الأساس وتبنيه من الداعمين والعاملين في المجال هو ما يمكن أن يصنع فرقاً حقيقياً في هذا الدور، (دور الإعلام في التماسك الاجتماعي والتعافي المبكر).
لا يختلف كثيراً هذا الأساس الذي أودّ الحديث عنه عندما نقارب المهمّة من وجهة نظر المجتمع المدني الذي يفترض العنوان دوراً له إلى جانب وسائل الإعلام، وهو محقّ في ذلك، فالدور للجميع وإن اقتصر العنوان على مناقشة دور الإعلام والمجتمع المدني بافتراضهم (دولياً) الجهتين الأكثر استقلاليّة وحياديّة، لذلك فالمجتمع الدولي يُعوّل على هاتين الجهتين أكثر من غيرهما، حيث من الممكن أن تكونا إلى حدٍّ معقول خارج دوائر الصراع المباشرة.
في مقالٍ سابق شرحتُ كيف يتم التعامل مع الحياديّة المفترضة للمجتمع المدني في السياق الدولي، وكيف يفهم جميع أصحاب الصلة والمصلحة بدور المجتمع المدني أنّ هذه الحيادية وظيفيّة، غير حقيقيّة، وأن المجتمع المدني لديه دور سياسي واضح بحسب انحيازاته سواء إلى أطراف الصراع أو انحيازه إلى السياق الدولي، ولكن ما يميز المجتمع المدني هو إجادته للّغة المشتركة التي من الممكن تداولها بين أطراف الصراع، والتي ستسهم في تحقيق الإرادة الدولية بما يخصّ سورية في النهاية، لا إرادة شعبها، ولا أريد أن أستفيض هنا في تكرار الأفكار التي ذكرتها في المقال السابق.
ولكن حسبي أنني أريد التأكيد على أن الإعلام (المستقل) لا يختلف كثيراً عن المجتمع المدني من هذه الناحية سوى في كونه أكثر قرباً من السياق الدولي وأكثر خضوعاً لأجندته وقيمه، لأنه يُنتج خطاباً مباشراً لا تصلح معه المراوغة، ويتمّ الكشف فوراً عن أي انحياز يقوم به، لذلك هو عموماً أبعد عن أطراف الصراع، ولكنّه بعيد عن الإخلاص للحقيقة بنفس القدر، لا لأن الحقيقة هي عند أطراف الصراع، مطلقاً، ولكن لأن الحقيقة هي عند الناس، والناس منحازون بطبيعتهم، ولأن المجتمع الدولي يمثل توجهاً صارخاً لا يقل انحيازاً إلى أجندته وعقيدته وقيمه من أي طرف يمثله أطراف الأزمة في سورية، والغرق في الولاء للسياق الدولي كما يفعل الإعلام (المستقل) ليعبر عن استقلاليته المدّعاة هو غرق في الأدلجة والبعد عن الحقيقة.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على واتساب اضغط هنا
لنعد إلى الحلّ المفترض، الأساس الذي ينبغي التعامل معه إن أمكن ذلك في الإعلام والمجتمع المدني وغيرهما، هذا الأساس الذي يقوم على المطلب الأساسي للناس في سورية وهو (الحريّة) الحريّة الصعبة جداً والتي اتضح أنها غير متأتية في بلاد وصفت نفسها لعقود بأنها بلاد المنشأ للحريّات، وما يظهر اليوم من تعامل الأجهزة الأمنية في مختلف دول العالم مع الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين والمناهضة للإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل في غزّة، يفضح بشكل كبير الأكاذيب حول الحريات، ويفضح تربع مصالح الفئات الحاكمة فوق إرادة جميع الناس في كل مكان، كما يؤسس للدور المخفي قديماً المعلن حديثاً حول وظيفية الحريّات في خدمة أصحاب السلطة والنفوذ وحركة المال، وإلّا فإن مكان هذه الحريّات في (جحيم ما) لا يهتم بكرامة الإنسان أو آدميته.
ولم نكن بحاجة لدليل بهذا الحجم على ذلك، فالأدلّة كانت كثيرة ومتعاقبة، وجميع من واجه النظام العالمي يعلم الكذبة الكبيرة لليبرالية الحديثة في ادّعائها للحريات وتمجيدها لها، ولكنّ القدر اختار أن يُنصف الناس فقدّم لهم دليلاً واضحاً وساطعاً بهذا الحجم.
في سوريا نحتاج إعلاماً مستقلاً حقيقيّاً، ومجتمعاً مدنياً كذلك، والاستقلاليّة لها تعريف واحد يتقاطع مع الحرية ولا يخرج عنها، نحتاج الحريّة في الإعلام، والحرية تعني أن نُعبّر عن الناس كما يرغبون، لا كما يجب أن يكونوا من وجهة نظرٍ دوليّة أو خارجيّة، نحتاج كما أكرر دائماً أن نُعبّر عن انحيازاتنا بشجاعة لنكون أحراراً، وأن لا نلقي بالاً لما يمكن أن يصفنا به الآخرون أو يصنفوننا ضمنه جَرّاء تلك الحرية، فالاختباء وراء الصياغة العالمية والسياق الدولي يُخفي قدراً كبيراً من القهر في نفوسنا وحياتنا.
نحتاج الإعلام المستقل لنُعبّر عن الناس، عن قيمهم ومعتقداتهم ورؤاهم، ونحاوِل أن نكتشف مشكلاتهم لنحلها، لا إعلاماً يُسهم في الخداع وفي أدلجة الناس وبثّ الرسالة التبشيرية الخاصة به، والتي ترضي الداعمين وتؤسس لبلاد لا تشبه نفسها، ثمّ يدعي أنّه إعلام مستقل ويمارس الحرية!
اقرأ أيضاً: “المجتمع المدني” السذاجة الواعية في لعبة السياسة الدولية
إن الإعلام الذي يُطلق الخطابات ويطلب من الناس ترديدها هو إعلام يخدع من يموّله في البداية، ثم يخدع الناس ليؤسس لمجتمع هجينٍ مشوّه، لا ينتمي لا لوطنه ولا للآخرين، وهو إعلام يُخفي المشكلة تحت سطوة التمويل والبريستيج بدلاً من أن يكتشفها ويناقشها ويحلّها، إعلام سيضطر أصحابه يوماً ما لمواجهة الحقيقة التي كانوا يحاولون إخفاءها، لأنها ستبقى موجودة وإن لم يُسلط عليها الضوء كما ينبغي، هذا الإعلام يواجه اليوم كلّ ما كان يحاول أن يخفيه عن حقيقة إسرائيل، ولم يرغب بترويج وسماع سوى الرواية التي يريدها هو حول هذا الكيان المجرم تحت سطوة معاداة السامية.
سيواجه هذا الإعلام يوماً ما جميع الحقائق التي حاول أن يخفيها في سبيل ترويج روايته عن الحق والقيم والحرية، هذه الرواية الزائفة التي تضغط على الناس يومياً ليتجاهلوا زيفها في سبيل الدعم والمال والعيش في سورية وفي أماكن أخرى كثيرة خارج سورية.
إذا كنتُ أريد أن أفهم صحافة السلام يوماً ما، فأودُّ أن أفهم أنها الإخلاص للحقيقة ولانحيازات الناس واختلافاتهم مع حفظ الاحترام الكامل لهذه الاختلافات والانحيازات، وعدم محاولة النيل منها أو تشويهها، ولن أفهم ابداً هذه الصحافة على أنها محاولةُ ليّ عنق الحقائق والذهاب نحو المنتصف لتقريب وجهات النظر، لأن وجهات النظر لا تقترب من بعضها إلا إذا كانت صادقة ومخلصة لأصحابها، وتناقشت بما يكفي، ووصلت إلى نقطة لقاء، ليس شرطاً أن تقع في المنتصف.
إنّ جميع المجالات بما فيها الإعلام لها بُعد سياسي، وتقوم بممارسة سياسية ما، لا يُنقص ذلك من مصداقيتها، ولكنّ هذه الممارسة واعية لما تستطيع الوصول إليه ولما يُمكن لها التنازل عنه، هذه الممارسة لا تضلّل الناس، وإنما تتشفع لديهم بضرورات المرحلة، فالتخلي عن الحقوق في سبيل الالتقاء بين طرفي صراع لا يلغي الحق، ولا يغيّره، ولكنه يبذل ما يستطيع منه ليتقدّم باتجاه إيجاد الحلول المنصفة ضمن ممكنات كل طرف وما يقدر عليه في لحظة فارقة. الإنصاف الذي يستند للظروف لا للعدالة، هذا ما تفهمه الحقيقة، أمّا ادّعاء أنّ كلّ إنصاف هو عين العدالة فهذا هو التضليل والخداع والقهر، وهذا ما لن يمرّ طويلاً حتى يعود وينفجر بوجه الجميع …
إنّ الإعلام الحرّ الذي يُعبّر عن ضمير الناس، وعن ضمير من يعملون به بمصداقية وإخلاص ودون تأثيرات خارجيّة، هو من يستطيع أن يُسهم في تأسيس التماسك الاجتماعي ويصل للتعافي المبكر، لا الإعلام الذي يتمّ مناقشة دوره ضمن حدود معدّة مسبقاً وضمن إرادات (أممية) لا يمكن تجاوزها أو الصراخ بوجهها، إنّ هذه الإرادات والسياقات الدولية تمارس تسلطاً كبيراً، ينبغي أن يحارب الإعلام والناس والمجتمع المدني للتحرّر منه، هذا التسلط لا يقلّ عنفاً عن التسلط الذي تمارسه الأنظمة الاستبدادية، وإن برع في وضع مساحيق التجميل وقادت مناقشاته مجموعة من السيدات الجميلات أو الرجال المُحتفينَ بأناقتهم.