مِثل وميض أمل في المشهد السوري المُعتم بمآسيه ومعاناته على مختلف الأصعدة والمسارات، أَقرَّت مؤخرًا مجموعة من وسائل الإعلام السورية ما أسموه: (لجنة الشكاوى)، لتكون أول لجنة منبثقة عن هذه المجموعة المنضوية في (ميثاق شرف الإعلاميين السوريين) الذي هو جسم جامع لوسائل إعلام سورية قررت أن تعمل في إطار نظري وعملي يتسم بالشفافية والنزاهة والعدالة لتقديم منتج إعلامي سليم تتوفر فيه الحماية للجمهور وللإعلاميين ولمؤسساتهم أيضًا.
هذه البيئة التي تعكس نضج الساحة الإعلامية السورية وتطورها وعدم تأثرها، هي ذاتها بحالة الاستقطاب والخلافات التي تنقلها عبر منصاتها تغذي الإرادة الحرة في كل مواطن وناشط وصحفي يطمح لسماع صوت الحقيقة والعدالة التي ينشدها في حياته على كل المستويات ولو في جانب واحد من كفاحه وهو في الجانب الإعلامي.
إن الإطار الجامع لهذه المؤسسات في جسم واحد يثبت للسوريين أن مصلحة الجمهور وحمايته بالنهاية هي بوصلة حقيقية يمكن أن تهتدي إليها بالنهاية أي مؤسسة أو كيان أو تجمع إلى جانب نظيراتها، بالإضافة إلى أن وجود هذا الميثاق على أرضية أخلاقية ومهنية يحقق له بيئة أمان وتطور مستدامة لا يمكن تكديرها بسهولة نظرًا لمناخها التنظيمي والمهني الواضح والسليم.
إن لجنة الشكاوى التي تمخَّضت عن الميثاق لها دور مهني وعملي كبير في ترسيخ ثقافة المسؤولية التي تعدُّ الركيزة الأساسية في بناء مشهد إعلامي متنوع وحرّ دون تجاوزات أو انتهاكات، حيث تحكمه قواعد وضوابط تنتهي بالمساءلة والمحاسبة على أساس مهني وأخلاقي ثابت.
ولعل أهم أهداف هذه اللجنة، كما ورد في ملف تعليماتها التنفيذية، هو تنظيم العلاقة بين الجمهور ووسائل الإعلام، وتوعية الجمهور بحقه في الشكوى، وتصويب أخطاء النشر والاعتراض على الانتهاكات المهنية والأخلاقية.
حيث إن هذا التوجه بحدّ ذاته يعدُّ خرقًا كبيرا ًفي ثقافة العجز وعدم القدرة على الرد أو الشكوى للمواطنين السوريين الذين ترسخت لدى معظمهم بشكل أو بآخر فكرة عدم الوصول لمكاتب السلطة الرابعة بكل ما يحمله مصطلح السلطة للأسف من معانٍ سلبية في بيئتنا المنهكة عبر سنين طوال من الاستبداد وعقد من الثورة على طغيان السلطة.
كما أن لجنة الشكاوى قد أخذت على عاتقها دورًا مهمًا في إرشاد المواطنين والمؤسسات إلى أساليب ممارسة حق الشكوى بطريقة مهنية، ممَّا يحفز الطرف المتضرر غالبًا لاتباع الطريق السليم والابتعاد عن الطرق العشوائية أو المؤذية الانتقامية أحيانًا، التي قد تبدأ ساحاتها من على المنصات الافتراضية والوصول إلى المؤسسات أو الإعلاميين المرتبطين معها على أرض الواقع.
طبيعة العمل الإعلامي والصحفي في الساحة السورية تفترض وجود انتهاكات أو تجاوزات وأيضًا الخطأ، وقد تأخذ بسبب ذلك المسألة أبعادًا متسارعة في سوء الفهم وردات الفعل، ممَّا يشكل خطرًا على المؤسسة أو الإعلامي أو حتى المواطن، ولذلك فإن ترسيخ بيئة الشكوى والتعريف بها على كافة المستويات تحقق نوعًا من الضمان لكل أطراف عملية المنتج الإعلامي، وبالتالي هي تسهم بشكل غير مباشر في ترسيخ ثقافة السلم المجتمعي التي تعدُّ بالنهاية إحدى أهداف الإعلام بالمحصلة.
هذا وترتقي لجنة الشكاوى بأحد أهدافها من خلال عملها على عدم شحن أطراف الشكوى وإثارة الحساسيات والخلافات بين الجمهور ووسائل الإعلام، ويتجسد ذلك في قاعدة التراضي بين الأطراف المتخاصمة، الذي يُعرف عادة بالمصطلحات القانونية بـ(التسوية) و ترك باب المفاوضات مفتوحًا في مرحلة التحقيق، وهو ما يعكس نُبل المبتغى وذلك بالوصول إلى حالة تصالح بين أي طرفيين قبل التدخل بالتحقيق وأثنائه بينهما من خلال إصلاح الخطأ أو الاعتذار التلقائي أو إصدار تعقيب ينصف المتضرر، وإلى ما هنالك من أوجه الحلول التي تحمل في طياتها قيمًا أخلاقية تتربع على عرش العدالة.
من جانب آخر، وفي الشق العملي من آلية عمل اللجنة، أكدت التعليمات التنفيذية للجنة الشكاوى السريةَ الصارمة المتعلقة بالشكاوى وضرورة التزام المطلعين عليها بهذه السرية، ممَّا يرفع من درجة الثقة بين المشتكِي و كوادر اللجنة التي تتلقى الشكوى، بل إن الضمانة التي فرضها نظام الشكاوى تمتد لتشمل المراسلات والمعلومات التي قد يدلي بها المشتكي خارج إطار الشكاوى الرسمي، وهو ما يعدُّ تمهيدًا أوليًا يسبق الشكوى بشكلها الرسمي، وهذه الحماية يوفرها نظام الشكاوى حتى صدور الحكم، وهو ما يمنع من تشكيل ضغوط أو تهديدات قد تقوم بها جهات أو أشخاص متضررة من هذه الشكاوى بعد الاطلاع على مجرياتها وسياقها، وبالتالي فإن هذا النظام يؤمِّن حماية مادية و معنوية ونفسية للمشتكِي وللأدلة والبراهين طول فترة تقديم الشكوى ودراستها وحتى صدورها.
إن حاجتنا الإعلاميين والمواطنين السوريين لهذا النظام ليس نوعًا من المثالية القانونية أو الإعلامية، إنما هو ضرورة لحماية الحقوق وخلق نوع من المنتج الإعلامي المتوازن الهادف بعيدًا التجاذبات وتوظيف الأجندات وحالة الاستقطاب السلبية في تناول مشكلات مجتمعنا.
نظام الشكاوى هو النواة الأولى التي يمكن أن نبني عليها نحن الإعلاميين مع الجمهور إعلامًا تشاركيًا يهدف لتحقيق مصالح المجتمع، وإيجاد بيئة تسمح بأن يسهم هذا الجمهور بالصناعة الإعلامية وامتلاك أدوات تطويرها وتوجيها وفقًا لحاجاته وتحدياته.