استيقظت على اهتزاز البيت بما فيه، كانت الساعة الرابعة والثلث ليلاً، في صباح 6/2/2023، نهضت من فوري أكبر وأسبح الله، أيقظت زوجتي وأولادي بخوف يبدو في صوتي وحركتي، لبسنا على عجل ونزلنا إلى الشارع، كانت الناس قد نزلت أيضاً، وكانت الأمطار تهطل بغزارة، كان الكل يقف تحت المطر الغزير في الشوارع، متلحفون بالأغطية، تشعر وكأن القيامة قد قامت!
انقطع التيار الكهربائي وكذلك الاتصال، فلم ندرك تماماً ما الذي حدث، ولكن في الصباح كانت الأخبار صادمة، وحجم الكارثة لا يوصف، لقد انهارت الأبنية على رؤوس سكانها الذين كانوا نائمين.
ثوان قليلة كانت كفيلة بدمار هائل، ووصل عدد الضحايا إلى ما يزيد عن ثلاثة آلاف في الداخل السوري المحرر، ما عدا ما يزيد عن ثلاثة آلاف من السوريين في تركيا.
بدأت عمليات الإنقاذ بما توفر من أدوات بسيطة، ومن خلال الدفاع المدني السوري، والمتطوعون الذين سارعوا دون تردد، ولكن ما حدث كان يتطلب تدخل أممي، فحتى تركيا استعانت بالدول الأخرى، فما بالك بمنطقة تفتقر لكل شيء!
عائلات بأكملها قضت تحت الأنقاض، أطفال غضة اختلط دمهم بهذه الأنقاض، والغريب أنه لم تتدخل الأمم المتحدة، أو غيرها، لقد تركونا نحفر بأظفارنا، لقد غابت الإنسانية بظلام السياسة!
بعض المشاعر لا يمكننا حتى أن نتخيلها، أم تقول: “طالعنا 11 واحد ميتين، وعم نحاول نطالع الشخص الباقي، هاد مو شي بخليك تحزن ويتقطع قلبك؟”
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على واتساب
رأيت رجلاً ستينيّاً يجلس على حجر ويضع رأسه بين يديه، إنه ينتظر أن يعثروا على جثث عائلته … يا الله كم يشعر بالحزن والعجز، وكم يستند على إيمان راسخ يجعله يقول: الحمد لله على كل حال وكم تم العثور على جثث لأمهات يحتضنّ أطفالهم، محاولات حمايتهم، فماتوا معاً.
طفل مات أبواه، فوقف ينادي بصوت تبكي له القلوب قبل العيون: ” أمي … تعالي لعندي، أمي … تعالي لعندي”، ولكن هيهات، هيهات وفي كل شارع كان هناك عزاء، بل ربما أكثر، لم نعد قادرين على متابعة التعزية، لكثرة من توفي، أي والله ووفي اليوم الثالث حتى دخلت بعض المساعدات الخجولة، وكأنهم يريدون فقط أن يقولوا: لقد قمنا بما يجب! ولكن الحقيقة كانت غير ذلك، فلم تساهم تلك المساعدات في أي شيء، لقد مات من مات … لقد انقطع الأنين … وسنكمل ما بدأناه بأيدينا … وقد كتب أحدهم عبارة مؤلمة على إحدى الحجارة: نحن متنا … شكراً لأنكم خذلتمونا !!!
تلك الحجر كانت أكثر رحمة من قلوبكم القاسية، وكانت تحمل إنسانية تفوق إنسانيتكم المزعومة، تلك الإنسانية الانتقائية، التي تصم آذاننا لموت قطة، ها هي اليوم تلتزم الصمت، بل على العكس، لقد كانت هناك أصوات تنبح بالشماتة، وترقص على أشلاء الأطفال والنساء والشيوخ!
فلا تطالبونا يوماً ما بإنسانية بخلتم بها علينا في هذه الأوقات العصيبة، فلا بد من يوم نعود فيه لعزنا، وساعتها لن نعدم الإنسانية، لأننا أصحابها، ولكن سنذكركم بما فعلتم.
ولأن في كل محنة يأتي الله بمنح فقد أظهرت هذه المحنة الكثير الكثير من المواقف الإيجابية، والصور المضيئة، منها:
– محبة الناس لبعضها البعض، وحرصهم على بعضهم، لقد أظهرت الأخوة الإيمانية، والإنسانية في أبهى صورها، فترى الجميع يسارع للعمل في رفع الأنقاض، وإيواء المتضررين، والتبرع لهم، لم يفرقوا بين أحد.
– ظهر الإيمان بالله، والرضى بقضائه، والتسليم له، وإلا كيف لمن فقد عائلته أن يقف صامداً؟ كيف لمن فقد ذويه، ولمن يخرج من تحت الأنقاض، ولمن يعمل، كيف لهم أن يديموا ذكر الله والدعاء، وكلمة الحمد لله لم تفارق الألسن، كيف؟
– أظهرت المحنة أن السوريين منذ بداية الثورة إلى هذه اللحظة ليس لهم إلا الله ناصراً ومعيناً، ثم أنفسهم، فهم هم من يستطيع أن يعمل، وهم فقط أصدقاء لذاتهم.
– وأظهرت المحنة كذب دعوى الإنسانية، التي يتبجح بها العالم، باستثناء، كدول ومؤسسات أممية، وما ظهر من الشعوب من تعاطف كان دليلاً على أن هذه الشعوب شيء، ومن يحكمها شيء آخر.
– لقد أعادت هذه المحنة للسوريين مقولة : يا الله ما لنا غيرك يا الله.
إن هزة أرضية استمرت ثواني معدودات فعلت ما فعلت، إن هذا الكون بما فيه لا يشكل شيئاً أمام قدرة الله المطلقة، هزة بسيطة، زجرة واحدة، جعلت الناس في ذهول، أحسوا من خلالها بأن القيامة قد قامت، فما لهذا الإنسان الضعيف سوى معرفة قدر نفسه، ومعرفة قدر ربه، فيعود إلى النهج السويّ، فلا يظلم، ولا يتكبر، ولا يتجبّر على خلق الله بما يتوهم من القوة والسطوة، وأن يعتبر بهذا الزلزال للمستقبل.