محاصرة الشّرور (1)

أ.د عبد الكريم بكَّار

أ.د عبد الكريم بكَّار

مضت سنة الله –تعالى- في الخليقة أن يظل الصّراع مشتعلاً بين الحق وأهله من جهة وبين الباطل وأهله من جهة أخرى. وحين هبط آدم -عليه السلام- وزوجه من الجنة هبط معهما إبليس بوصفه المسؤول الأكبر عن إشاعة الشرور.

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا

إن وجود إمكانيّة لاقتراف الشر والوقوع في الرذيلة، يشكل مظهرًا مهمًا من مظاهر ابتلاء الله تعالى لعباده، وكلما درجت البشرية في سبيل العمران والتحضر اتسعت الإمكانات أمام أهل الخير وأمام أهل الشر؛ لكن بما أننا نعيش في ظل حضارة ماديّة إلحاديّة فإن اكتشاف مساحات نشر الخير تحتاج نوعًا من الإبداع، على حين إن الشر يطرق الأبواب، وكثيرًا ما يدخل من غير استئذان!

اقرأ أيضاً:    الكوميديا السوداء وترسيخ المطاوعة
الخبرة القديمة لدينا في مقاومة الشرور، كانت تعتمد على النهي والزجر والتشنيع على المفسدين ومعاقبتهم. وهذا الأسلوب سيظل مطلوبًا، لكن التجربة التاريخية علّمتنا أن الضغط الاجتماعيّ إذا لم يصحبه تربية جيّدة وتنمية أجود للوازع الداخلي، فإن آثاره ستكون أقرب إلى السلبيّة منها إلى الإيجابيّة، إنه يساعد على إخراج مجتمع ظاهره الصلاح والاستقامة والامتثال لآداب الشريعة، وباطنه المروق والفسوق.

إذا كنا نريد معالجة نظيفة للانحراف، فإن هذا يتطلب معالجة تقوم على النعومة والجاذبيّة والتفاهم، واستخدام الحد الأدنى من القوة والسلبيّة.
إن من شأن التقدم الحضاري أن يوسّع مساحة الحريّة الشخصيّة لكل واحد من الناس، وهكذا فما كان يُظن شيئًا عامًا يؤثر في الحياة الاجتماعيّة -ومن ثم فإنه يمكن نقده –صار في جملة الخصوصيّات الفرديّة.

وتتكون الآن أعراف تجعل نصح الجار لجاره والرجل لأحد أقربائه من الأمور غير المستساغة. ولهذا فإن مساحة القول في محاصرة الشر تضيق يومًا بعد يوم.

ومع هذا الانكماش أخذ المبدأ الإسلامي العظيم (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) يذبل ويفقد منطقيَّته وأنصاره على نحو مخيف ومخجل!

في الماضي كان عدد كبير من المسلمين يعوّل على الدولة في محاصرة الفساد والحد من انتشار الانحراف بوصفها الجهة الوحيدة التي تملك سلطة رادعة ومنظمة معترفًا بها. وقد كانت الدولة تقوم فعلاً بشيء من ذلك، لكن لا بد أن نلاحظ عددًا من الأمور، منها:
إن الدولة حين تكون مشروعة، فإنها تستطيع الحد من صور انتشار السوء كثيرًا، لكن كما أشرت قبل قليل فإن الردع من خلال القوة يكون قليل الجدوى إذا لم يُصحب بعمل توجيهيّ إيجابيّ.

ونحن نعرف أن كثيرًا من المنحرفين تحوّلوا إلى مجرمين كبار من خلال سجنهم مع فئة ضالعة في الإجرام أو مع أشخاص من أصحاب السوابق. أما إذا كانت الدولة غير مشروعة أو كانت لا تخضع لرقابة شعبيّة جيدة فإن قدرتها على حماية الآداب العامة وحفظ ظاهر المجتمع تكون شبه معدومة؛ لأنها هي نفسها تحتاج إلى الكثير من الإصلاح. وهناك نقطة مهمة لا ننتبه في العادة إليها، وهي أن مطالبة الدولة بالمزيد من التدخل لحماية الأخلاق والآداب والأعراف الحميدة، سيعني على نحو آلي منحها المزيد من الصلاحيّة والنفوذ في التدخل في حياة الناس، وهذا يتطلب تضخم أجهزة الدولة، وهذا ليس في مصلحتها ولا في مصلحة شعبها. إن الدولة مثل القلب ومثل الكبد إذا تضخم فسد، وإذا فسد تضخم. وقد صدق من قال: الدولة وليدة عيوبنا، والمجتمع وليد فضائلنا.

إن المجتمع الفاضل في الرؤية الإسلامية هو الذي يقوم بمعظم شؤونه دون أن يطلب المعونة من أي دولة أو سلطة بسبب استغنائه بمبادراته ومؤسساته وارتباطاته الأهليّة والشعبيّة. وأعتقد أننا الآن وصلنا إلى بيت القصيد ومربط الفرس في مقالنا هذا.

يتبع…في الجزء الثاني

 

الإيمانالفسوقسورياعبد الكريم بكارمحاصرة الشرور