أحد عشر يومًا كانت مدة آخر جولة من السّجال العسكري بين فصائل فلسطينيّة والكيان الإسرائيليّ، مسرحها غزّة من جهة وباقي التراب الفلسطيني المحتل من جهة أخرى، ترافق بانتفاضة بشريّة لفلسطينيّي الضّفة والقدس المحتلة، وتعدّاها ليشمل عرب 1948.
الجولات العسكرية السّابقة تميزت بمدّتها القصيرة، ومحدودية الردّ الفلسطيني بقواعد اشتباك مدروسة محليّة، لم تتجاوز القدرات الفصائلية الفلسطينية، غالبًا ما كانت تحقّق مكاسب متباينة لطرفي الصّراع القديم.
اقرأ أيضا: للقدس نصرها.. وللآخرين مكاسبهم
الجولة الأخيرة من المعارك تحت عمليات (سيف الأقصى)، غيَّرت العديد من المعادلات المتبعة، عناصر جديدة أدخلتها منظومة حماس العسكرية إلى ميدان الاشتباكات، فصواريخ الحركة لم تعد تقتصر على غلاف غزة، لا كمًّا ولا نوعًا، فكله تغيَّر، وما كان محظور التفكير به قد تم تحطيمه، بل وانتزاع زمام المبادرة، فأهداف تبعد 230km عن غزة يعدُّ الوصول إليها خرقًا لم يعتد على التعامل معه جيش الاحتلال الإسرائيلي.
قوس نيران جديد ارتمت تل أبيب تحته، فرشقات الصّواريخ المتدفّقة على هذه العاصمة أربكت قبّة الدّرع الفولاذي التي يفخر بها جيش دفاع الاحتلال، وكشفت عيوب القبّة، والذي اختبره الميدان عرّى ادعاءات نتنياهو التي سوّق فيها المعدات الدفاعية كضامن قويّ لاعتداءات الفصائل على قطعان المستوطنين كما يروّج له.
إرباك ظهر معه حالة الهزالة السّياسية المنعكسة عن جيش مرتبك، فصحف الكيان لا تتستّر على عيوب ساسته، والفشل الذّريع كان العنوان الرئيس الذي تُوّج بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار غير المشروط، بينما مقاتلو الفصائل يختالون في أنفاقهم منتشون بفرح نجاح الضّربات الصّاروخية المكثّفة.
لا يخفى أن القيادة الإعلاميّة والعسكريّة والسياسيّة الميدانية ألقت بظلالها على النتائج النهائية، فالمستوطنون يصدّقون النّاطق الرّسمي لحركة حماس (أبا عبيدة) أكثر من متحدثي وزارة دفاعهم، حيث سبق وقف إطلاق النار برسالة مفادها أن ضربة شاملة موسّعة تشمل كامل التّراب الفلسطيني المحتل كانت جاهزة أعطى خيبة كبيرة لحكومة نتنياهو.
ربط الفصائل قضيّة القدس وإحيائها بالتّصعيد الميداني والردّ المباشر مزّق حلم الإسرائيليين في جدوى صفقة القرن وضم القدس، وكذلك بدّد وهم تطبيع بعض الدّول العربيّة، فلا جدوى من كل ذلك على ما يبدو.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا
الإدارة الميدانية للمعركة بشكلها الهرمي المنضبط، وحالة الاصطفاف الحقيقية من العناصر والشعب الفلسطيني واستخدام البنى التحتية والموارد المتاحة بشكل مؤثر ومدروس، وإدخال مسيّرات جوية بتصنيع محليّ وتحقيق اختبار ميداني، فضلاً عن استهداف مطارات عسكريّة حجبت الكثير من الرحلات الجوية وألحقت ضررًا كبيرًا عبر رشقات المقاومة الصاروخية.
لم تعد غزّة ذلك القطاع الذي تمنّى أحد حكام إسرائيل أن يقذفه في البحر يومًا ما، فاليوم غزة بفصائلها قاومت بحرًا وبرًّا وجوًّا، فالمسيّرات التي انطلقت نحو فضاء الكيان المغتصب باتت ترسم نوافذ الأمل، بتحديدها لنقاط وتمركزات الكيان وخرق معادلة الجيش الذي لا يقهر، وفرض معادلات لا تروق له.
وحدها معادلة المحور الإيراني الذي ما زالت توقد جذوته حماس بعد خموده بادّعاءات الممانعة والمقاومة، فأثارت لدى العديد نفورًا شديدًا وريبة عربيّة من واقعيّة ومصداقيّة هذه التّصريحات، إذ إنها معادلة غير قابلة للتّصديق من مغتصب لأربع عواصم عربية، فمحور إيران يسيئ جدًّا لدماء من ضحّى، وإعادة إحياء دعاية التصدي والممانعة الإيرانية لا تستقيم مع الواقع الذي يفضح تشكيلات المحور، لكن معادلة غزّة هنا تفهمها هي وحدها، وما يهمنا من محورية القضية الفلسطينية غير مجزأة، وتحالفات اليوم غير تحالفات الأمس وحتمًا ستكون غير تحالفات المستقبل.