في زيارته الأولى إلى سوريا منتصف شهر كانون الثاني 2025، اجتمع المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية “كريم أحمد خان” مع مسؤولي الإدارة السورية الجديدة، لبحث الدعم الذي يمكن أن تقدّمه المحكمة لضمان المساءلة عن الجرائم التي وقعت في البلاد خلال حكم النظام البائد.
لا شك أن عملية الملاحقة الجنائية لمرتكبي الجرائم والانتهاكات الجسيمة – كما هو الحال في سوريا – تعتمد في نجاحها، وبدرجة كبيرة، على اختيار الآلية القضائية التي تستطيع إجراء محاكمات مجدية تمنع إفلات المجرمين من العقاب.
قبل سقوط النظام، كانت المحكمة الجنائية الدولية حلماً للباحثين عن العدالة للشعب السوري، حيث بلغت جرائم النظام ذروتها، لكن تنازع المصالح السياسية في مجلس الأمن منع إحالة تلك الجرائم إلى المحكمة.
لكن بعد سقوط النظام السوري وهروب أركانه، لم تعد المحكمة الجنائية الدولية الخيار الأفضل لملاحقة المجرمين، لا سيما مع وجود بعض الإشكاليات المتعلقة بالاختصاص التكاملي والموضوعي والشخصي للمحكمة، وهو ما يحد من قدرتها على إنجاح ملف العدالة الجنائية في سوريا.
اختصاص المحكمة الجنائية الدولية مكمِّل للقضاء الوطني؛
فالأصل في القانون الدولي الجنائي هو أن القضاء الوطني يملك الأولوية في ملاحقة كافة الجرائم التي تُرتكب ضمن إقليم الدولة، احتراماً لمبدأ السيادة الوطنية. وقد احترم النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ذلك المبدأ، حيث اعتبر أن اختصاص المحكمة هو اختصاص مكمّل لدور القضاء الوطني (المادة 1 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية).
لذلك، فإن ملاحقة الجرائم والانتهاكات الواقعة في سوريا يجب أن تكون من اختصاص القضاء الوطني السوري، كأن يتم إنشاء محكمة جنائية وطنية خاصة لملاحقة كبار المسؤولين عن تلك الجرائم، وتفعيل قدرة المحاكم الجنائية الوطنية الأخرى في ملاحقة المجرمين من الفئات الأدنى.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على واتساب اضغط هنا
وبالتالي، فلا يجوز أن يتعدّى اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على اختصاص القضاء الوطني إلا إذا كان هذا الأخير غير راغب أو غير قادر على ملاحقة الجرائم.
من هنا، فإن الإقرار بولاية المحكمة لملاحقة مجرمي الحرب في سوريا يعني أن القضاء الوطني في البلاد غير راغب أو عاجز عن إجراء المحاكمات اللازمة لأولئك المجرمين، في صورة مشابهة لما حصل في بعض دول إفريقيا التي انهارت أنظمتها القضائية بسبب النزاع المسلح، منها كينيا وجمهورية إفريقيا الوسطى والكونغو، وأصبحت غير قادرة على ملاحقة مجرمي الحرب، مما أفسح المجال للمحكمة الجنائية الدولية كي تتصدى لهذه المهمة.
القيد المفروض على جرائم الحرب في نظام روما:
وضع نظام روما قيداً على اختصاص المحكمة الجنائية الدولية للنظر في جرائم الحرب، حيث اشترط أن تُرتكب في إطار خطة أو سياسة عامة أو واسعة النطاق وفقاً للمادة (8/1) من نظام روما.
وبمقارنة ذلك مع ما ورد في الأنظمة الأساسية للمحكمة الجنائية الدولية الخاصة في يوغوسلافيا لعام 1993، والمحكمة الجنائية الدولية الخاصة في رواندا لعام 1994، والمحكمة الجنائية المختلطة في سيراليون لعام 2002، نجد أن اختصاص تلك المحاكم يشمل جميع الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي، بمعنى أنها تشمل جميع جرائم الحرب، دون النظر إلى وقوعها على نطاق واسع.
في الحالة السورية، فإن شرط ارتكاب جرائم الحرب في إطار خطة عامة أو واسعة النطاق سيؤدي إلى جدلية أن بعض تلك الجرائم لم تُرتكب ضمن خطة أو سياسة عامة واسعة النطاق.
لا يجرّم نظام روما استخدام الأسلحة الكيميائية في النزاعات المسلحة غير الدولية؛
إذ لم يتوسع النظام الأساسي للمحكمة في جرائم الحرب التي تُرتكب في النزاعات المسلحة غير الدولية بحجة احترام سيادة الدول، مكتفياً باعتماد ما جاء في المادة /3/ المشتركة من اتفاقيات جنيف، والانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية على المنازعات المسلحة غير الدولية، علماً أن المادة المذكورة لا تتضمن تجريم استخدام الأسلحة الكيميائية في النزاعات المسلحة غير الدولية (كاسيزي، القانون الجنائي الدولي، ص 170).
ولذلك، لو مُنِحت المحكمة الجنائية الدولية ولاية النظر في ملف الجرائم السوري، فلن تتمكن من ملاحقة المجازر المروعة التي ارتكبها النظام باستخدام السلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية، ودوما، واللطامنة، وخان شيخون، والتي أدت إلى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا، وهو سبب هام لإثبات أن هذه المحكمة لا تتناسب مع ملف العدالة الجنائية في سوريا.
الدفع بتنفيذ الأوامر القيادية يمكن أن يعفي من المسؤولية الجنائية عن جرائم الحرب؛
فالمبدأ في القانون الدولي الجنائي أنه لا يجوز للمتهم أن يدفع عن نفسه الجريمة بأنه ارتكبها تنفيذاً لأوامر قيادية، وهو ما أخذت به الأنظمة الأساسية للمحاكم الجنائية الخاصة في نورمبرغ، وطوكيو، ويوغوسلافيا، ورواندا، وسيراليون، وتيمور الشرقية وغيرها.
لكن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية خرج عن ذلك الأصل فيما يتعلق بفئة “جرائم الحرب”، حيث أجاز للمتهم أن يدفع عن نفسه المسؤولية الجنائية عما يرتكبه من جرائم حرب بأنه كان ينفذ الأوامر القيادية، مما سيسمح للكثيرين من مرتكبي جرائم الحرب ممن نفذوا عمليات القصف وارتكاب المجازر أن يطلبوا من المحكمة إثبات أنهم كانوا مجبرين على تنفيذ أوامر القيادة، وقد يستطيعون إثبات ذلك، وبالتالي صدور الحكم بعدم مسؤوليتهم عن تلك الجرائم.
اقرأ أيضاً: قرار حاسم لمحكمة الاستئناف في باريس بشأن توقيف بشار الأسد
ولكن، فيما لو تم إنشاء محكمة جنائية خاصة، فيمكن أن يتضمن نظامها الأساسي مبدأ عدم جواز الدفع بتنفيذ أوامر القيادة للاعفاء من المسؤولية، وفقاً لما تضمنته كافة الأنظمة الأساسية للمحاكم الجنائية الخاصة المشار إليها.
لا مسؤولية جنائية لمن هم دون الثامنة عشرة أمام المحكمة الجنائية الدولية؛
إذ لا يجرّم نظام روما تجنيد القاصرين إذا كانت عمليات التجنيد تتم لمن تجاوزوا الخامسة عشرة، ورغم ذلك فإن نظام روما لا يعترف بهم كمقاتلين، ولا يقر بمسؤوليتهم الجنائية، ولذلك لا يحق للمحكمة الجنائية الدولية أن تحاكم إلا من أتم الثامنة عشرة عاماً عند اقتراف الجريمة.
وهذا النهج المتبع لدى المحكمة لا يتماشى مع مصلحة العدالة الجنائية في سوريا، حيث قامت قوات النظام وميليشياته بعمليات تجنيد واسعة النطاق للقاصرين. وبالتالي، لو مُنحت هذه المحكمة ولاية النظر في ملف الجرائم السوري، فهي لن تختص بملاحقة أولئك القاصرين أو من قام بتجنيدهم، مما يؤدي إلى استمرار حالة الإفلات من العقاب لكثير من المجرمين.
من هنا، يتضح أن الجنائية الدولية ليست الخيار المناسب لتحقيق العدالة الجنائية في سوريا، والأجدى إنشاء محكمة جنائية خاصة يراعي نظامها الأساسي كافة متطلبات العدالة ويتلافى كافة الثغرات التي وردت في نظام روما، مما يضمن نجاحاً أكبر لملف العدالة الجنائية في البلاد.