الرجل والمرأة.. مهمة كونية واحدة وأعمال متنوعة

أ. عبد الله عتر

 

 

من المفيد لعالمنا بنسائه ورجاله أن ينفتح على روح الثقافة الإسلامية حين يفكر بمثل هذه القضايا الكبرى، ولعل نقطة البدء في هذا التفكير تتمثل بسؤال جوهري:

ما هي المهمة الكونية التي خُلِق لأجلها الرجال والنساء؟ (السؤال 1)

استنادًا إلى هذا السؤال تتناسل كل الأسئلة والإجابات، ابتداءً بطبيعة المرأة إلى دورها في تربية الأولاد والعمل المهني والمشاركة بالحياة العامة، وانتهاءً بواجبات الرجل وتربيته للأولاد وإنفاقه على العائلة، كل التفاصيل اللاحقة تستمد معناها من هذه “النبعة”.

في أعماق الثقافة الإسلامية نجد الجواب شديد الوضوح، وهو أن المهمة الكونية التي حملها الجنس البشري هي “عمارة الحياة”، عمارة الحياة الدنيا والآخرة، عمارة العالم المادي والعالم الروحي، العبادة والإنتاج معًا، وقد شرح علماء التفسير والفقه أن المهمة التي استخلف الله عليها الآدميين هي “إقامة الحق وعمارة الأرض”،

وأن “الحكمة في إخراج آدم من الجنة عمارة الدنيا”،

وأن “معنى الآدمي هو ما خُلِق له من عبادة ربه والخلافة في أرضه”،

وأن الله أنزل الكثير من الشرائع ليحافظ الناس على “بقاء العالم على النظام الأكمل”. (الماوردي، والرازي، والقرطبي، والأصفهاني، والبيضاوي، وعلاء الدين البخاري، وابن عابدين، وابن عاشور).

الملاحظة المهمة هنا أنه في هذا المستوى العالي من التفكير توجد “مساواة كونية” بين الرجال والنساء، كلهم مكلفون بالمهمة نفسها دون تمييز.

ما هي الخطة العامة ليقوم الرجال والنساء بعمارة الحياة؟ (السؤال 2)

إذا كانت المهمة عمارة الحياة وإبقاء العالم على النظام الأكمل فإن الواجب أن يكون ذلك في كل مجالات الحياة والعالم، لأن الحياة لا تعمر إلا بإعمار مجالاتها الرئيسة، وإلا سيكون أداء المهمة ناقصًا لا يرضي الله، هذا الاستنتاج يدفعنا خطوة للأمام، أن “مهمة الرجل والمرأة هي عمارة الحياة في كل مجالاتها الرئيسة”، المجالات الأسرية والتربوية والتعلمية والسياسية والاقتصادية والثقافية وغير ذلك.

هناك واجبات اقتصادية على النساء والرجال، وهناك واجبات سياسية على الرجال والنساء، وهناك واجبات في الإنجاب والتربية على الرجال والنساء، وليس لأي منهما أن يقول: ليس لي شأن في هذا المجال كله، فهذا مجال الرجال أو هذا مجال النساء، ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)). شرحها المفسرون بأن الرجال والنساء أولياء/حلفاء في التناصر والتعاون والتراحم، يتعاونون على الأمر بالمعروف في كل مجال وعلى النهي عن المنكر في كل ميدان (الطبري، والرازي، والنسفي)، في هذا المستوى الثاني من التفكير لم ندخل بعد في تفاصيل كل مجال، فهذه وظيفة السؤال القادم.

كيف يقوم الرجل والمرأة بعمارة الحياة في مجالاتها الرئيسة؟ (السؤال 3)

من ناحية عملية يبدو أننا نواجه استحالة في ذلك، فأين نجد ذلك الإنسان الفائق الذي بمقدوره الإسهام في كل مجالات الحياة؟!

دعونا نتذكر أن الإنسان –رجلاً أو امرأة- يساهم في عمران الحياة وتنمية المجتمع من خلال “أعمال” يؤديها، أي أن “العمل” هو الأداة التنفيذية التي نحقق بها المهمة الكونية، والعمل هو كل نشاط وفاعلية يمارسها الإنسان.

والعمل النافع المنتج هو الذي يساهم في عمارة الحياة وبقاء العالم على النظام الأكمل، أينما وجد هذا العمل وفي أي مجال كان، سواء فعله رجل أو امرأة، وسواء كان داخل الأسرة أو خارجها.

بناءً على ذلك تتحدد قيمة العمل وإنتاجيته بحسب نفعه والخير الذي يجلبه معه، فأي نشاط يسهم إيجابًا في مجال الاقتصاد هو “عمل نافع منتج”، وكذلك أي نشاط يسهم في مجال تربية الأطفال هو “عمل نافع منتج”، وهلم جرًا..

ما هو العمل الذي ينبغي أن يؤديه الرجل والمرأة لعمارة الحياة؟ (السؤال 4)

حسب ثقافة العالم الإسلامي يمكن تقسيم الأعمال التي يلتزم بها الرجل والمرأة إلى نوعين:

١. الالتزام الفردي: وهي أعمال يجب على الفرد أداؤها بغض النظر عن أداء الآخرين لها، مثل بر الوالدين في المجال الاجتماعي، أو الزكاة في المجال الاقتصادي، أو تربية الأطفال في المجال التربوي، فهذه واجبات فردية “عينية”.

٢. الالتزام الكفائي: وهي أعمال يجب على المجتمع أداؤها وتوفيرها لأعضائه، ويأثم الجميع إن لم يتم أداها بشكل كافٍ، ويكون أداؤها من خلال أفراد ينهضون بها على وجه كافٍ لكن لا يجب على كل واحد أن يفعلها.

بعض هذه الأعمال تكون أعمال خاصة مثل الطبيبة التي تعالج الناس في المشفى أو في عيادتها، فهي تقوم بواجب كفائي تكفي فيه الناس قضية الصحة، ومثل مدرس الرياضيات الذي يكفي الناس قضية تعليم الرياضيات، وبعض هذه الأعمال تكون أعمال شأن عام مثل الحاكم والقاضي الذي يكفي الناس شؤون الحكم والقضاء.

هذه الرؤية تجعل منطق التعاون والتكامل بين جميع النساء والرجال في المجتمع هو المنطق المنظم للوظائف وأدوار كل واحد فيها، فهو يتنقل بالتعاون من المستوى الفكري العام إلى مستوى اجتماعي تنظيمي، لذلك يقول الفقهاء: إن الواجب الكفائي يجب على القادر المؤهل له أن يقوم به، ويجب على البقية “إقامة ذلك القادر”. (الموافقات للشاطبي).

ما هي القاعدة التي تحكم العمل الفردي والعمل الكفائي للرجل والمرأة؟ (السؤال 5)

على المرأة والرجل واجبات فردية “عينية” في كل مجالات الحياة الأساسية، وواجبات كفائية في مجال أو أكثر يختاره الشخص بنفسه ويُمضي فيه أكثر أيامه وأوقاته، وقد يساهم ببعض الأعمال الكفائية دون التزام دائم بها.

“خالد” رجل عليه التزام فردي في المجال الاقتصادي (دفع ضرائب\نفقة على أسرة) وفي المجال التربوي (تربية الأطفال)، وفي المجال الاجتماعي (رعاية والديه وصلة الأرحام وحسن العلاقة مع الجيران)، واختار أن يكون عمله الكفائي الرئيس في مجال التعليم، فدرس وتخصص وصار معلمًا يدرس مادة الأدب العربي، واختار أيضًا أن يتطوع ساعتين أسبوعيًا في جمعية خيرية تعلم الأيتام.

“هدى” زوجة خالد لديها التزام في المجال التربوي (تربية الأطفال) وفي المجال الاجتماعي (صلة الأرحام، والجيران، والأصدقاء)، واختارت أن يكون عملها الكفائي في المجال التربوي، فتفرغت لتربية أطفالها ورعاية الأسرة وتعلمت المهارات والعلوم التي تجعلها تنجز ذلك بكفاءة، وفي المجال الصحفي، حيث درست كلية الصحافة وكانت تعمل لساعات محدودة في مؤسسة إعلامية، ثم بعد فترة عدلت من وضع العمل الكفائي الخاص بها فدخلت بوظيفة بدوام كامل.

في كل مجال من المجالات توجد أعمال كثيرة جدًا:

–  بعض هذه الأعمال تكون واجبات عينية على المرأة والرجل تمثل مساهمة الحد الأدنى من عمارة الحياة في هذا المجال.

– أما بقية أعمال المجال فتكون واجبات كفائية على المرأة والرجل.

ويمكن صياغة ذلك بأنه “تقدم واجب في كل المجالات، وتقدم اختياري في مجال أو أكثر”.

المنطق الحاكم هنا هو الارتقاء بجميع جوانب الحياة ككتلة واحدة والصعود بها في الوقت نفسه إلى مستوى معين لا يجوز النزول عنه، بحيث تمارس المرأة والرجل مهمة عمارة الحياة في مختلف المجالات التي يعيشها الإنسان، فالواجب يمتد إلى مستوى معين في كل جانب من جوانب العمران ليسنح بممارسة العمل في مختلف زوايا الحياة الإنسانية، ثم يترك للفرد بعد ذلك أن يختار مجال الكمال الذي يرغب فيه (دستور الأخلاق في القرآن، محمد عبد الله دراز).

ومن يتتبع الأعمال الفردية “العينية” التي طلبتها الشريعة من الرجل والمرأة -وجوبًا أو استحبابًا- تتضح له الصورة بشكل ناصع.

يترتب على هذه الطريقة في التفكير أن:

  1. مجالات الحياة كلها مهمة جدًا، وليس هنالك مجال أقل شأنًا وأهمية من مجال، لأن نموها جميعًا هو الضامن لعمارة الحياة واستمرار المجتمعات واستمتاعها بالنعم.
  2. سير الصحابيات وأمهات المؤمنين تثبت بشكل واضح أن نساء عصر النبوة عملن في أعمال كفائية كثيرة جدًا، فتجد من عملت بالتجارة (السيدة خديجة)، والفتوى (السيدة عائشة)، والخياطة والغزل (السيدة زينب)، والضيافة (أم شريك)، ورعاية الخيول (أسماء بنت أبي بكر)، والطب والتمريض (الشفاء بنت عبد الله)، والخروج في المعارك والقتال (أم عمارة وأم سليم)..
  3. ليس هناك مجالات يُستبعَد منها الرجال أو النساء أو يُمنعون من دخولها بالمطلق، نعم هناك أعمال محددة تكون مسؤولية النساء بشكل رئيس لتعلقها بطبيعة الخلق مثل الإنجاب والحضانة، وهناك أعمال تكون مسؤولية الرجال بشكل رئيس مثل وجوب قتال العدو، لكن ذلك لا يعني أن المجال العسكري ليس للنساء مشاركة فيه، فهناك أعمال كثيرة داخله مثل التمويل والتطبيب العسكري والإدارة والتصنيع إضافة للقتال، وكلنا يتذكر تلك اللحظات المهيبة التي أنفقت فيها الصحابيات الكثير من أموالهنَّ لدعم مجتمع المدينة في المعارك، بل نصَّ الفقهاء أنه يجب على المرأة الانضمام للقتال حين يكون العدو على وشك الاجتياح الكامل للبلد.
  4. البرامج الموجهة للنساء وتعزيز قدراتهنَّ ينبغي أن تنفتح على توفير المعارف والإمكانات التي تتمكن بها النساء من ممارسة الواجبات العينية بشكل متقن، مثلاً برنامج في التدريب على أساسيات الاقتصاد وإدارة المال لتتمكن من أداء فرض عين عليها، وبرنامج في التدريب على أساسيات الوعي السياسي لتتمكن من أداء فرض العين في المجال السياسي.. وهكذا.. يتم إحصاء الأعمال المطلوبة من المرأة في نطاق الالتزام الفردي ثم تصميم برامج لها..
  5. تربية الأطفال ليست عملاً خاصًا بالمرأة، فهذا واجب فردي على الوالدين (يجب على كل واحد بعينه) وليس واجبًا كفائيًا.. كيفية التربية والوقت الذي تحتاج إليه يتم تنظيمه بين الرجل والمرأة وفق التشاور والائتمار بالمعروف.

الرجلالرجل والمرأةالعلاقة بين الرجل والمرأةالمرأة في الإسلامسورياعبد الله عترواجبات المرأة