الروائية السورية ابتسام تريسي في لقاء مع صحيفة حبر

معتصم الخالدي

“جوائز المسابقات الكبرى الخاصة بالرواية عادةً تحكمها قوانين خاصة، وتتدخل في مجرياتها سياسات وأخلاقيات غالبًا ما تكون بعيدة عن تقييم النص الأدبي” بحسب الروائية السورية القديرة (ابتسام تريسي)، التي التقيناها في صحيفة حبر للحديث عن أعمالها وواقع الرواية العربية السورية اليوم، وكان الحوار التالي:

بمن تأثرت ابتسام تريسي حتى قررت دخول عالم الرواية العربية، وماهي الرواية الاولى التي قرأتها وشكلت ذلك الطموح؟

“بداية لابد من القول: إنّ الإنسان حصيلة قراءاته وتجاربه، وإنّ لكلّ كتاب أثر ما في قارئه، وأوّل رواية قرأتها كنت في العاشرة من عمري (الأيام) لطه حسين، لكنّ الرّواية التي أثّرت فيّ أكثر هي ثاني رواية قرأتُها (خان الخليلي) لنجيب محفوظ.

قراءاتي في البدايات لم تكن خياري أو اختياري، كانت اختيارات أبي رحمه الله، وقد اشترى لي أعمال (محمد عبد الحليم عبد الله، والمنفلوطي، وجبران، وطه حسين). في الرّابعة عشرة من عمري قرأت لغادة السّمان، وكانت كتبها هدية من صديقة لي، وتعرفت على أعمال (محمد ديب) أيضًا هدية من أصدقاء.

أستطيع القول: إنّي لم أختر من قرأت لهم حتّى أصبحت في الثانوية العامة وصرت أشتري الكتب بنفسي؛ لذا أرى البداية الحقيقية من اختياري هي قراءة (تولستوي، وتشيخوف، ودوستويفسكي، وغوركي، وبلزاك، ودوماس، وفلوبير، وديكنز، والأخوات برونتي). هؤلاء من شكّلوا الوعي الحقيقي عندي وجعلوني أقرر بأن أخوض عالم الرّواية.

كتبت رواية وأنا في الثّانوية وأتلفتها فيما بعد، ثمّ كتبت أخرى وأنا في الجامعة وأتلفتها أيضًا، وكانت البدايات محبطة بسبب آراء أصدقائي السّلبية، واكتفيت لفترة طويلة بكتابة القصّة والنّصوص”.

 

الرواية نوع أدبي معروف بالسّهل الممتنع، كيف استطاعت ابتسام تريسي تكوين اسم لها بين الرّوائيين الأوائل في العالم العربي؟

“في الواقع لم أسعَ لتكوين اسم أو موقع لي، فقط أخلصت للكتابة، وعملت بجد على أن تخرج رواياتي بصورة جيدة، لم أستسهل الكتابة يومًا، ولم أرضَ عن عمل قبل أن يقول لي من حولي رأيهم فيه، ما زلت حتّى الآن بعد كتابة ستة عشر عملاً روائيًا أشعر بالقلق قبل طباعة العمل ومعرفة رأي القرّاء فيه، أصدقائي على الأقل، وبعض معارفي، فأنا أؤمن أنّ الكتابة الرّوائية تحتاج تفرغًا والكثير من العناد والمثابرة، وأيضًا أؤمن بعقل القارئ؛ لهذا أجهد نفسي في البحث والتّقصي عن كلّ شاردة وواردة في العمل، ولا أتوانى لحظة عن مسح فصل أو أكثر إن لم أجده مناسبًا”.

منذ حصولك على جائزة مسابقة الدكتورة سعاد الصباح عن المجموعة القصصية (جذور ميتة) عام 2001 غابت أعمالك عن الجوائز والمسابقات الكبرى، ما سبب ذلك برأيك؟

“الجوائز عادة تحكمها قوانين خاصة وتتدخل في مجرياتها سياسات وأخلاقيات غالبًا ما تكون بعيدة عن تقييم النص الأدبي، ونادرًا ما تجد عملاً يستحق يفوز بجائزة. هناك روايات قرأتها في القائمة الطويلة للبوكر مثلاً كانت تستحق فعلاً الفوز، ولا أعرف سبب استبعادها لتفوز روايات أخرى.

أحيانًا يكون لاسم الكاتب وشهرته دور في الفوز، وأحيانًا لجان التحكيم أو تفاهمات بين القائمين على الجائزة ودور النشر له دور، وأنا بعيدة عن كل هذا، أكتب وأسعى لأن يكون عملي جيدًا.. ما تبقى لا يد لي فيه”.

ماذا أضافت الروايتان (سلم إلى السماء) و (القمصان البيضاء) لمسيرتك الأدبية؟

“ربّما يكون السّؤال غير دقيق، أنا لا أكتب عملاً ليضيف لمسيرتي الأدبية، ما أكتبه هو رؤيا للعالم من حولي، أكتب عن أشياء مهمة _كما أعتقد_ أشياء تلح عليّ وتسكنني فأعبر عنها.

(سلّم إلى السّماء) هي خطوة أخرى في مشروعي الروائي عن سورية بعد الثورة الذي بدأته بـ (مدن اليمام، لمار، لعنة الكادميوم، الشارع 24 شمالاً) التي شكّلت رؤيتي لما حدث خلال الأعوام الخمسة الأولى من عمر الثّورة، والمشروع لم يكتمل بعد. كتبت (بنات لحلوحة) التي ستصدر خلال أيام، وأعمل الآن على رواية (الثلج الذائب).

أمّا رواية (القمصان البيضاء) فهي عن صراع ثلاث نساء مع مرض السّرطان، وقد أقلقني الأمر وألح عليّ فكتبت عنه، فقد خطف الكثير من أصدقائي الذين ذكرتهم في الإهداء، ونجت منه صديقتان كتبت عن تجربتهما كما حدثنني عنها وصديقة ثالثة تصرّفت بكتابة قصتها، مع هذا لم تنسلخ الرّواية عن الإطار المكاني العام السّوري وما يحدث فيه، فالسّرطان له وجهان النّظام السّوري ورأسه، والكانسر الذي ينخر الجسد ويقضي عليه”.

السيدة مها حسن روائية سورية معروفة، هل تمتلك أدوات الروائية المتمكنة؟

“قرأت لمها حسن أربع روايات فقط، لم أكن مهتمة بتقييم أعمالها بقدر اهتمامي بمعرفة الطّريقة التي ترى فيها العالم والقضية السّورية تحديدًا، ولا يقتصر الأمر على مها حسن، فأنا أقرأ لسمر يزبك مثلاً، ولكلّ كاتبة كتبت عن الثّورة أو اتّخذت موقفًا إيجابيًا منها، وما يهمني في الدّرجة الأولى ماذا قدّم لي العمل وماذا أضاف إليّ، أمّا التّصنيف والتّقييم فتلك مهمة النّقاد أو من يدّعون النّقد”.

 معظم أعمالك الأدبية تتناول الواقع بشكل مباشر، لماذا لم نشاهدها كأعمال درامية برأيك؟

“في سورية قبل الثورة جرّبت تحويل (جبل السّماق) إلى عمل درامي، كتب السيناريو عبد الرحمن حلاق، وعرضناه على جهات كثيرة ورُفض العمل.

أظنّك تعرف أنّ الأعمال الدرامية في بلدنا تتحكم بها مافيات كما تتحكم بالنشر وبتسويق الشعراء والكتاب وتصديرهم للخارج أيضًا، ثمّ إنّ من يتحكم بها بهذا السّوق خاضع لأجهزة المخابرات وتوجهاتها الطّائفية، فقد جاء في أسباب رفض سيناريو جبل السّماق أنّ التّلفزيون السّوري أنتج مسلسلاً عن تلك المرحلة يقصدون المسلسل الذي يتناول شخصية (صالح العلي)، أمّا جبل السّماق فتتمحور حول ثورة الشّمال وشخصية (إبراهيم هنانو) الذي مُورس عليها الكثير من التّغييب في كتب التّاريخ الرّسمية”.

الجدل مستمر حول موضوع الحجاب ويتزايد، هل واجهتِ كونك روائية محجبة تمييزاً من نوع ما؟ وهل المؤسسات الثّقافية برأيك تظلم الأديبة المحجبة أكثر من غيرها؟

“بالتّأكيد، أنا مقتنعة بهذا الأمر تمامًا، وزادت قناعتي بعد تجاربي مع دور النّشر، التي بعضها رفضت طباعة أعمالي لهذا السّبب بالتّحديد، للأسف الكثير من المثقفين وأشباه المثقفين يرون في الحجاب حجابًا للعقل، ولو فتشوا عقولهم جيدًا لوجدوها محجبة بالكثير من الأفكار الإيديولوجية أو الدّينية أو الاجتماعية، ولو تسنّى لهم أن يكونوا للحظة موضوعيين مع أنفسهم لاكتشفوا أنّهم أسرى لمجموعة أفكار وعادات وتقاليد يدافعون عنها دفاعًا مستميتًا، مع أنّهم يطرحون أفكارًا مثل أن تكون الثّورة اجتماعية فكرية قبل أن تكون سياسية، والمشكلة أنّ غالبيتهم في مواقع سلطوية (إعلاميًا وثقافيًا)”.

عبد الرحمن حلاق (مع حفظ الألقاب) روائي سوري معروف وهو زوجك بالطبع، هل الارتباط بزميل من المهنة نفسها أمر متعب أم لا ولماذا؟

“متعب ومرهق، لكنّه التّعب المثمر الذي يعطي نتائج جيدة، فعلى صعيد النّقد يقوم هو بتحفيزي دائمًا لكتابة الأفضل؛ لأنّه يقرأ أعمالي قبل الطّباعة ولا يتحدّث سوى عن السّلبيات، المرّة الوحيدة التي قال لي عبارة: (إنّها رواية جيدة) كانت عن كتاب (الظّل)، ووصف (بنات لحلوحة) بالرّواية الضّخمة.

على الصعيد الشخصي التّفاهم والانسجام بيننا يبقى سيد المواقف مهما تشابكت الآراء وتعثرت؛ لأنّنا نتجاوزها بالحوار، وإن اختلفنا حول أشياء لا يفسد الودّ بيننا”.

كونك امرأة مثقفة كيف ترين الحركات النسوية السورية اليوم؟ وهل ابتسام تريسي نسوية؟

“الحديث في النسوية ذو شجون، فلو استعرضنا النّسويات الأوائل _العربيات على الأقل_ لوجدنا أنّ لهنّ مؤلفات عظيمة تربط وعي المرأة الاجتماعي بوعيها السّياسي، وبعضهنّ لم يكتفِ بالكلام، بل أسسنَ جمعيات ومدارس، قد تكون المناضلة (نازك العابد) التي وُلدت أواخر القرن الثّامن عشر (1887) الرّائدة في بلاد الشّام، إذ شاركت على نحو كبير في تأسيس الجمعيات النّسائية والمطبوعات الخاصة المطالبة بحقوق المرأة مثل (مجلة العروس) ونشطت على نحو خاص في مجال المطالبة بحقوق المرأة السّياسية، وقد عاصرتها (مي زيادة، وهدى شعراوي) ثمّ تتابع هذا الجيل مع (سحر خليفة، ونوال السّعداوي) وغيرهنّ كثير، ما أودُّ قوله أنّ النّسوية في السّنوات العشر الأخيرة تكاد تنحصر بأصوات غالبيتها لا تمتلك غير الحديث عن الحريّة الشّخصية، دون أن يدركن أنّ الحريّة لا تتجزأ، فإمّا أن تكون حريّة مجتمع يضمن للفرد (رجلاً أو امرأة) أمانه وسلامته وكرامته أو لا تكون، وضمن هذا الإطار نعم أنا نسوية، ومعظم كتاباتي تبرز المرأة في موقع الفاعل اجتماعيًا وسياسيًا كما تُبرز ما يقع عليها من ظلم وقهر واستلاب”.

 

تنحدرين من مدينة إدلب السورية، ما مدى حضور ادلب في رواياتك؟ وماهي رسالتك لإدلب وشعبها؟

كتبت روايتين (جبل السّماق/سوق الحدادين)، و(جبل السّماق/الخروج إلى التيه) عن إدلب (جغرافيا، وعادات، وتقاليد، وبيئة، وقصة كفاح ضدّ الفرنسيين)، وقد حضرت إدلب وأريافها في الكثير من رواياتي (لعنة الكادميوم، ومدن اليمام، ولمار)، وشاءت السّلطة السّياسية ممثلة بالأسد الأب أن تنمّط هذه المحافظة ضمن صورة واحدة عملت عليها البروباغندا المخابراتية بتأنٍ وهدوء لتجعل منها رمزًا للتّخلف والتّعصب الدّيني، حتّى أنّ أحد أساتذة جامعة تشرين في اللاذقية عبّر عن دهشته العظيمة واستنكاره من وجود كاتبة روائية من هذه المحافظة، وتضاعفت دهشته عندما علم أنّي من أريحا، مع أنّ محافظة إدلب مثلها مثل أيّ بقعة في العالم العربي تجد فيها أقصى اليمين وأقصى اليسار وما بينهما.

تتكرر المأساة اليوم بتواطؤ دولي يجعل من هذه المحافظة كأنّها قندهار، صحيح أنّهم استطاعوا ذلك بفضل الدّور القذر التي لعبته أجهزة المخابرات الإقليمية والدّولية، لكن أملي بأبناء إدلب سيبقى كبيرًا، وآمل أن يبتكروا الحلول التي تناسبهم بعيدًا عن الأجندات الخارجية”.

ابتسام تريسيالروائية السورية تريسيالرواية السوريةروائياتروائيةسورياصحيفة حبرمعتصم الخالدي