مكابدة القوة

أ. عبد الله عتر

 

 

“الإنسان مخلوق بقوة كافية تمامًا كي يقتحم العقبات ويكابد الصعوبات ويحقق حياة طيبة”

هذه هي الرسالة الكونية التي أوصلها الله إلينا في سورة البلد: ((لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ))، وهي توفر لنا بصيرة ممتازة عن كيف نعيش، وتدير توقعاتنا عن الحياة وعن أنفسنا بشكل دقيق.

كشف المفسرون عن هذه الرؤية بأن تركيبة الخلق البشري داخل العالم مغموسة ومغمورة في كبد، وهذا معنى حرف (في) الذي يفيد إحاطة الظرف بالمظروف، فحياة الإنسان مغلَّفة بالكَبَد. ما هو الكَبَد؟ له معنيان رئيسان في الوقت نفسه:

الأول بمعنى (الصعوبة): في كَبَد يعني في صعوبات ومشقات وتحديات لا تتوقف من لحظة الميلاد، فالدنيا مليئة بذلك، وهذه طبيعة الحياة وقدرها. (ابن عباس والطبري وابن كثير).

الآخر بمعنى (القوة): في كَبَد يعني خلق الإنسان في قوة وقدرة كبيرة على العيش والتدبير والتحمل، وما منحه الله من القوى الظاهرة والباطنة في القول والفعل والعقل، وهذه طبيعة الإنسان وقدره (القرطبي والرازي والبقاعي).

 

المغزى العميق:

المغزى العميق لرسالة الله هذه أن الدنيا صعبة وأننا أقوياء في المقابل، ثم يهمس في أراوحنا أن تركيبة الخلق جاءت هكذا ((لقد خلقنا الإنسان)). دعونا نتذكر أن هذه المعاني العميقة نزلت في أصعب أيام مكة على الرسول وأصحابه.

نحن -رجالاً ونساء- أقوياء لدرجة أننا في لحظة من اللحظات نشعر بضخامة تلك القوة ونمارسها بشكل طائش تجاه الله فنعصيه، أو تجاه الناس فنظلمهم، وهو ما أشارت له الآية التالية مباشرة: ((أيحسب أن لن يقدر عليه أحد)).

إننا أقوياء لأن ندفع صعوبات الحياة ونواجهها.. لدرجة أن الله طلب منا في السورة نفسها اقتحام العقبة ((فلا اقتحم العقبة))، والعقبة هي الطريق الوعر الصاعد في الجبل.. الكثيرون منا سيخوضون تلك الصعوبات ويجتازون العقبة ويصلون إلى حياة طيبة في الدنيا والآخرة ((أولئك أصحاب الميمنة)).

صحيفة حبر تحاور رسام الكاريكاتير موفق قات

 

طرق الخير والشر صعبة:

بما أن طبيعة الحياة مغمورة بالصعوبات والمتاعب، فهذا يعني أن طريق الشر والمعصية ليس مريحًا وسهلاً كما اعتاد كثير منا أن يظن، إنه طريق صعب أيضًا، قدر الحياة بكل دروبها أن تكون كذلك، هذا الاستنتاج هو الذي أفصحت به السورة في السطر التالي: (وهديناه النجدين) أي بيَّنا للإنسان طريق الخير والشر ليمشي في الأول ولا ينزلق في الثاني، والنجد هو الطريق الصعب الآخذ بالصعود.

 

التوصية العملية:

في كل واحد منا مخزون قوة لا ينفد صنعته يد الإله، علينا أن نرى جوانب القوة التي نملكها ونطورها ونستثمرها في مدافعة صعوبات الحياة ومصائبها، مهما كانت ظروفنا بائسة فنحن نملك رصيد قوى كبيرة، لكنا نضيعها تارة ولا نستخدمها تارة ولا نقتنع بوجودها تارة أخرى، قوة الروح والنفس والعقل والجسد والفعل..

ولدينا من القوة ما نتمكن به من توليد قوة مفقودة نحتاجها في هذا الموقف أو ذاك.. وفي بعض الأحيان نكون مرتبكين بقوتنا وكيفية إدارتها وتشغيلها أكثر من ارتباكنا بضعفنا..

علينا خوض الحياة ومكابدة أحداثها بشجاعة، نفعل ذلك ونحن سعداء مطمئنون واثقون.. كما كان رسول الله، فقد خلق الله فينا كل ما نحتاجه للنجاح بذلك، وقد فعلها كثيرون قبلنا ويفعلها كثيرون ممن حولنا.. ههنا لا مكان لليأس والعجز.. لذلك كانت وصية القرآن ((لا تيأسوا)) ووصية الرسول صلوات الله عليه: (لا تعجز) ووصية صاحب الرسول ابن مسعود: (اعمل ولا تيأس).

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا

أن نتواصى بالصبر والمرحمة.. أشارت سورة البلد إلى استراتيجية ضرورية للذين خاضوا الحياة وتجاوزوا العقبة، أنهم كانوا من ((الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة)). الإيمان أكبر مخازن القوة.. والتواصي تفاعل بين الناس وشبكات علاقات ممتدة ومؤسسات وأعراف وقوانين تثبت الواحد عند مكابدة الحياة كي لا يكون وحده، وتنشر في الأرجاء لمسات الرحمة والرفق التي تجعل الحياة طيبة..

هي الطاقة الدافعة لمواصلة الطريق.. والقدرة على النهوض من جديد وصناعة النصر بعد الهزيمة.. قوة التشافي والتعافي من الأمراض والأزمات.. إنها ممكنة جدًا.. وإنها مكابدة القوة..

 

أ. عبد الله عترالإسلامالإنسانالعمقالقوةصحيفة حبر