إنَّ الإنسان بجسده هو المؤسسة الأهم في حياته التي تنضوي حياته تحت إشرافها وإدارتها، وهي المسؤولة عن قراراته بشتى ميادينها، لكن نجاحها يبقى مرهوناً بسلامة أفرادها وتحري توزيع المناصب والمهام بينهم بشكل عادل، فالقلب مديراً عاماً لها، إليه تعود القرارات النهائية ومنه تبدأ، حيث لا يصدر أي قرار مالم يُمرّر تحت ختمٍ موثّقٍ منه. يليه العقل كمستشارٍ آليٍّ أشبه ما يكون بجهاز الحاسوب المبرمج لا يتعدى حقيقة كونه ميزة تقنية مطوّرة تمتاز بها المؤسسات البشرية عن المؤسسات الحيوانية الأخرى، ويليهما اللسان ممثلا دورَ الناطق الرسميّ لهذه المنظومة.
إنَّ توظيف الجوارح على هذا النحو في طريقة التعاطي بالأمور الحياتية من شأنه أنْ يحققَ نجاحاً مرضياً، ويؤكد ذلك قول رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: ” أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ “. فإن سار الإنسان على هذا النهج بالقلب الصالح الذي رُبِيَ على الخير من أول خلقه، فقد أصاب فلاحاً في الدارين الدنيا والآخرة، وبلغ في صوابه حداً كأنْ لم يخطئ في حياته قط، فهو إنْ أذنب استغفر، وإنْ أساء اعتذر، وإنْ مسه الخير شكر، وإنْ مسه الضر حمد عليه وصبر، لا يخيفه سقوط ولا يعتريه من ربه قنوط.
هذه الإدارة القلبية تسعى وصولا إلى عامل الاستقرار النفسي بشقيه المتلازمين القناعة والرضا، فالقلب ذو مبادئ ثابتة يصعب على الظروف استمالته، كما الديانة التي يدين بها كل إنسان والعقيدة المستقرة في قلبه لا يغيرها التشهي والهوى، أمَّا العقل محراك الخير والشر في آنٍ معاً، لا يكبح تطلعاته شيء، ولا تركن الأقدار له خاطر، يحاول الاستيلاء على كل ما يشاهده ولا يعرف للاكتفاء معنى، همه الأوحد استحواذ كلِّ شيء طالما كان متاحاً له، وإنْ لم يكن متاحا فالحال ليست بأفضل منها، ﻷنَّه سيجلس متفتقاً الأفكار على هيئة ألفاظ حزينة يسربلها إلى القلب ليضعفه ويوقع به في اليأس والإحباط، ولولا أنْ تداركه الله بالسلوى وألهمه الرضا وبثَّ فيه الأمل لأودى بحياة نفسه. وشر تلك الألفاظ قوله: ياليت كذا ولو أنَّ كذا، فهي من نزغ الشيطان بين الإنسان ونفسه، أما من كان على مقرُبة من الهدى فلا يحبطنَّه إنسٌ ولا جان.
وبالنظر جليا إلى أعمق مراتب الفكر نجد التدبر والتفكر في خلق الله ومكنونات عالمه في طليعتها، وقوله تعالى: “أفلا يتدبرونَ القرآنَ أمْ على قلوبٍ أقفالُها” دلَّ على أنَّ القلب هو موضع التفكُّر والتدبّر الحقيقي، لطالما علمونا أن نستبعد قلوبنا عن القرارات المهمة والمصيرية في حياتنا، وأن نوليَ عقولنا الحق المطلق في تقريرها لتخرج صحيحة لا عواطف تشوبها، لكنَّ هذا يناقض إلى حدٍ ما الذي جاء في صحيح الأثر عن النبي -عليه الصلاة والسلام-قوله: “الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ” مشيراُ بذلك إلى الميزان الذي أودعه الله صدورنا لنفرق به بين الحق والباطل بالفطرة السليمة والتأويل الحسن، لا باتباع المزاج والأهواء. على هذا فإنّ قلوب رُبّيَت على طاعة الله قادرة على اتخاذ قرارات صائبة ومؤهلة بلا ريب لذلك، ولو أنَّها لم تكن لما قال نبي الله لوابصة؛ ثلاثاً: “استَفتِ قلبكَ ولو أفتاكَ الناسُ وأفتوك “. قلوبنا عطايا من الرحمن، كالمدارس هي لنا، وكأمهاتنا علينا برُّهنَ واﻷخذ بما يملينه علينا بصدق إحساسهنَّ، فقلبك ثمّ قلبك ثمّ قلبك ثمّ عقلك.