علي سندة |
كثير ممَّن يفكر في قرارة نفسه عندما يريد أن يبدأ مشروعًا أو أمرًا يخصه يميل إلى البدء بتاريخ صحيح، فإذا كان الشخص في منتصف الأسبوع يُخطط وينتظر أول الأسبوع للبدء بما يريد، أو ينتظر أول يوم في الشهر أو السنة، وإذا وُجِّه إليه سؤال عن تحديد مقدار لا يعرفه على وجه الدقة، يميل إلى التقريب، لكن أيضًا يقفز ذهنه إلى الأرقام الصحيحة، كمئة وعشرة ومتر وكيلو.. مرد ذلك أن العقل بطبيعته ينحو دائمًا إلى الاتمام والترتيب في كل شيء.
ذلك التفكير يصح في كل أمر مادي تستطيع تحديده والتصرف به كما تريد وترتاح ولا يترتب عليه أمر إلهي وحساب، كبدء برنامج رياضي، أو قراءة كتاب، أو فتح مشروع ما.. ومثله الكثير، ويكون في الغالب خاليًا من التسليف والتحديد فيه للالتزام الفعلي؛ لأنه مرتبط بالشخص نفسه ويحقق أشياء مادية ملموسة متعلقة بالنجاح والفشل، ومنها واجبة الفعل على الإنسان وتحتاج إلى ديمومة واستمرار حتى آخر الحياة، كتناول دواء ما لا بد منه حتى يستمر الإنسان بالحياة.
لكن هل ينطبق التفكير السابق في التعامل مع العبادات المفروضة؟! كم من الأشخاص، ونحن مقبلون على شهر رمضان، يقولون سأبدأ في الصلاة بدايته، وسأذهب إلى المسجد لأداء الصلاة، وسأصوم عن كل المحرمات ليس فقط عن الطعام والشراب، وسأبدأ قراءة القرآن! وهل ربّ شعبان غير ربّ رمضان؟! هل ملائكة يوم الإثنين مثلاً تُسجل الأجر وملائكة يوم الأحد لا تُسجله؟! هل أول الشهر مليء بالأجر والثواب ومنتصفه أو آخره خالٍ منه؟! حاشا لله أن يكون ذلك، إنما لو كان الأمر ماديًا ملموسًا، كاستلام جائزة يوم الثلاثاء فجرًا، أو التزام لو تم الإخلال به يترتب عليه خسارة أو غرامة..، لما مالت العقول إلى التسليف عبر آلية الترتيب والتسلسل الزمني، لكن عندما يتعلق الأمر بالعبادات يتهاون مَن يحدث نفسه بها مع الله ولا يتهاون مع عباد الله في الماديات! والأصل في الوجود العبادة منذ وجوب التكليف على المرء ما دام حيًا لقوله تعالى: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”
ذلك التفكير ممكن تقبله لو بدأ المرء فعلاً بالتطبيق مُستغلاً المناسبات العظيمة كشهر رمضان القادم بعد أيام، لكن العبرة بالاستمرار بعد رمضان ولو بشكل أقل، وإن لم يكن هناك التزام، وهذا حال الكثيرين حتى مع الملتزمين في العبادات الذين يكثفون نشاطهم في رمضان ويعودون إلى عاداتهم السابقة بعده، يكن الحال كمن يجعل لكل مقام مقال، ورمضان عنده هو (المقامة الرمضانية) فيغدو أشبه بأبي الفتح الإسكندري بطل روايات بديع الزماني الهمداني الذي يتنكر ويتلون في الظهور بحسب الزمان والمكان، فعند انسلاخ شهر شعبان يتذكر أن رمضان قادم، وترك المُحرمات عليه لازم، فينفض الغبار عن القرآن، ليقرأن بُغية الأجر والراحة والأمان، فاليوم عنده هو يوم العبادة، فلا تهاون فيه ولا هوادة، تراه إلى المسجد لأداء الصلاة جماعة ساعٍ، وإلى كلام الله مصغٍ وواعٍ، فلا إنترنت ولا هاتف جوال، ولا قائمة مسلسلات للمتابعة في الشهر الفضيل ولا أحوال، وفي خضم المُتابعة طيلة شهر رمضان على هذا المنوال، ومعرفة الناس بالتزام (أبي الأحوال) يظهر الراوي عيسى ابن هشام، فيعرف شخصية أبي الفتح في المقامة الرمضانية، لكنه أسر ذلك في قلبه ولم يفضحه بين البشرية، ذلك أن عيسى دعا الله في سره له بالهداية والاستمرار في تلك العادة، وترك التسليف عبر الترتيب الزمني الصحيح للقيام بالعبادة، ذلك أنها واجبة على المؤمن في كل وقت بغية السعادة والمفازة، سائلاً الله تعالى وهو أكرم الأكرمين أن يهدي كل الناس أجمعين، والحمد لله رب العالمين.