معضلات اللجوء والهجرة التي تعصف بعالمنا اليوم تكشف عن خلل بنيوي دولي في جذور الحريات، حرية الحركة والتنقل.
ومن المفيد هنا التفكير في سوابق من العالم الإسلامي تشرح نظامًا مختلفًا وسلسًا في تمكين اللاجئين والمهاجرين من حرياتهم في التنقل والإقامة، مفتاح هذا النظام سؤال: من يملك منح اللجوء والأمان؟
لأي رجل أو امرأة أن يمنح أي لاجئ عقد اللجوء، ويكون العقد نافذًا دون موافقة السلطات.
ويصير هذا الشخص اللاجئ (مستأمنًا، لأنه “إذا أمَّن رجل حر أو امرأة حرة واحدًا أو جماعة صح أمانهم”، بموجب عقد الأمان هذا لا يجوز لأحد أن يتعرض لهذا اللاجئ أو يمنعه من دخول البلد ولو كان الحاكم نفسه، بل يجب حمايته ورعايته (عدا حالات وجود تجسس أو ما يشبهه من المفاسد، فإنه يمكن للحاكم أن ينقض عقد الأمان بشرط أن يعيد المستأمن إلى مكان آمن ولا يتركه للموت جوعًا وبردًا)، وقد حدثت وقائع كثيرة جدًا في تاريخ البلاد الإسلامية منذ عصر النبوة.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا
لنتخيل الوضع الآن، اللاجئون العالقون على الحدود البولندية مثلاً، تأتيهم امرأة بولندية وتقدم لهم وثيقة لجوء، فتكون تلك الوثيقة نافذة فور صدورها من المرأة، فتجبر السلطات البولندية وحرس الحدود أن يُدخلوا أولئك اللاجئين.
لا يزال المثال سهلاً، ما نتحدث عنه أن يأتي شخص لامرأة بولندية يطلب منها اللجوء، ويكون مطلوبًا باسمه للسلطات بسبب جرائم أو إرهاب، فهل هناك أهلية للمرأة أن تمنح ذلك الشخص اللجوء وعقد الأمان؟ معلوم أن هذا الأمر يقع خارج الخيال السياسي والحقوقي المعاصر، لكنه حادثة حقيقية وقعت فعلاً.
حين دخل الرسول مكة أصدر أمرًا بقتل بضعة عشر رجلاً ممَّن أجرموا بحق المسلمين خلال الفترة السابقة، كان منهم (الحارث بن هشام، وجعدة بن هبيرة)، فهرب هذان الرجلان إلى بيت الصحابية أم هانئ، فأعطتهم الأمان وأدخلتهم في جوارها (حمايتها السياسية)، لم ينقض ذلك اليوم حتى علِم علي بن أبي طالب أن هذين الرجلين في بيت أم هانئ، فذهب إليها ووجدهما عندها، فطالبها أن تسلم الرجلين فرفضت، وذهبا إلى بيت الرسول ونادت أم هانئ من خارج الباب: يا رسول الله، زعم ابن أمي عليٌّ أنه قاتل رجلاً قد أجرته، فأجابها الرسول: (قَدْ أَجَرنَا مَنْ أَجَرتِ يَا أُمَّ هانئ وأمنَّا من أمنّت)، وحصلت حادثة مشابهة حين قامت السيدة زينب بنت الرسول بتأمين أبي العاص المشرك.
ارتفاع أسعار الوقود والغاز في إدلب بسبب الليرة التركية
الأصعب من ذلك، أن يكون هناك حرب مع الروم مثلاً، فيأتي رجل من المسلمين ويعطي الأمان لهم، فيضطر المسلمون أن يلتزموا بأمانه، يحكي فضيل بن يزيد الرقاشي أن عمر بن الخطاب “جهز جيشًا فكنت فيه، فحصرنا موضعًا، فرأينا أنَّا سنفتحها اليوم، وجعلنا نُقبل ونروح، فبقي عبد مِنَّا، فكتب لهم الأمان في صحيفة، وشدها على سهم ورمى بها إليهم، فأخذوها وخرجوا، فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب، فقال: العبد المسلم رجل من المسلمين، ذمته ذمتهم” وحصلوا على الأمان.
وفي عهد الرشيد سُئل قاضي القضاة أبو يوسف عن رجل من الروم يريد أن يدخل من غير الطرق المشروعة المخصصة للدخول “فيمر بمسلحة من مسالح المسلمين على طريق أو غير طريق فيؤخذ، فيقول: خرجت وأنا أريد أن أصير إلى بلاد الإسلام أطلب أمانًا على نفسي وأهلي وولدي، أو يقول إني رسول، يُصدق أو لا يصدق؟ وما الذي ينبغي أن يعمل به في أمره؟
قال أبو يوسف: فإن كان هذا الرجل الحربي إذا مرَّ بمسلحة مر ممتنعًا (مسلحًا بسلاح حرب)، منهم لم يُصدق ولم يُقبل منه، وإن لم يكن ممتنعًا منهم صُدِّق وقُبل قوله”.
هناك فلسفة مختلفة للحريات كانت قائمة في قلب العالم الإسلامي، وهي أن الأرض مُسخّرة للناس جميعًا، وأن التنقل والإقامة من خواص الآدمية، و “ما كان من خواص الآدمية فهو باقٍ على الحرية”، حتى أنهم كانوا يميزون الحر بأنه “من له أن يخرج من البلد”، لأن الحرية “تثبت له حق الاستبداد بالخروج إلى حيث شاء” (السرخسي والمرغيناني، والزيلعي، وعبد العزيز البخاري).
لا يصح بناء نظام قانوني أو تعقيد إجراءات التنقل والإقامة بدرجة تخنق حركة الناس أيًا كانوا، ومن أي البلاد أتوا.