مجرد وجود ملابس يرتديها الإنسان مؤشر على وجود أصل الحرية.. ووجود الحرية يقتضي وجود ملابس تستر أجزاء من الجسد.. هكذا هي العلاقة بين ظاهرة الملابس وظاهرة الحريات، وهذه العلاقة ليست مجرد أخلاقيات بل هي ظاهرة كونية لا يمكن الفكاك منها..
للبرهنة على ذلك أنطلق من فكرة “رئاسة الإنسان” التي تعني أن الإنسان يأخذ موقعاً فريداً في هذا العالم، ومن يكون في هذا الموقع يحصل على ميزة فائقة حقاً.. وهي أنه يتمتع بحزمة قدرات وخواص لا يشاركه بها غيره من مخلوقات الأرض، مثل العقل والحرية واللغة واستعمال اليدين بشكل فائق وغير ذلك.. بهذه القدرات والخواص يملك رئاسة العالم..
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا
أي أن “رئاسة الإنسان” قضية متعلق بطبيعة الخلق وطبيعة العالم نفسه..
إذا تقدمنا أكثر في هذا التفكير نجد أن العناصر التي تجعل الإنسان رئيسياً هي العناصر التي تجعله مختلفاً عن غيره من الحيوانات.. هنا نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام خاصية عجيبة هي اللباس..
نحن المخلوقات الوحيدة التي ترتدي ملابس وتتفنن في صناعة الملابس، بل تُعتبر الملابس “لغة اجتماعية” تحكي الكثير عنا وعمن نحن.. هذا ما شرحه المفسرون والاجتماعيون المسلمون كالقرطبي والرازي وابن خلدون وابن الأزرق.
إذا وسعنا دائرة النظر على المستوى الكوني سنرى أن غياب الملابس مؤشر على غياب الحرية والعقل الإنساني، وهو مؤشر على غياب “رئاسة العالم”..
فليس هناك مخلوقات تتسم بالحرية والعقلانية مهتمة بقضية الملابس والتفنن فيها، في المقابل فإن المخلوق الوحيد المتصف بالحرية والعقلانية هو المخلوق الوحيد الذي يرتدي الملابس ويتفنن فيها.. مرة أخرى هذه ملاحظة تجريبية وليست عقيدة أخلاقية..
فكرة وجود الملابس بحد ذاتها تصاحب فكرة الحرية والعقلانية.. وفكرة التعري وغياب الملابس بحد ذاتها تصاحب غياب الحرية والعقلانية..
النتيجة:
أي تفكير حر باللباس يجب أن يقوم على ربط الحرية بوجود ملابس تستر أجزاء من الجسد.. هذا هو التوجه الحقوقي والأخلاقي الأساسي الذي يتسق مع فرادة الإنسان وحريته..
أما التفكير الذي يسير بالطريق المعكوس (الحرية = حرية التخلص من اللبس) فهو تفكير غير مبني على أسس عقلانية ولا واقعية.. ولا يتسق مع طبيعة وجود الإنسان في هذا العالم.. هو أقرب للأيديولوجيا المغلقة.
هذا هو المنطق الأساسي للعلاقة وليس العكس.. وهذا فحوى الحقيقة الكونية.. فالمخلوق الوحيد الذي يتصف بالحرية هو المخلوق الوحيد الذي يرتدي ملابس ويتفنن في اللبس..
للتأكد ما عليك إلا أن تقارن بين صورتين: صورة شارع مزدحم بالناس وصورة أخرى لأي تجمع حيوانات.. وإذا أردت مشاهدة حقيقية فاذهب إلى حديقة الحيوان في بلدك ثم ألق نظرة إلى من هم داخل الأقفاص والأسوار وإلى من هم حولك من الآدميين..
تلك العلاقة الثابتة بين ظاهرة الحريات وظاهرة اللباس تحتاج إلى تأمل وتحليل كيف ترتبط الحرية باللبس ولماذا.. فعند تصفح المخلوقات نجد أنه: حيثما وجدت الحرية في مخلوق وُجد اللباس، وحيثما غابت الحرية عنه غاب اللباس..
أي أن منطق اللباس يصاحب منطق الحريات، ومبرر اللباس يصاحب مبرر الحريات.. هذا على مستوى المنطق الأساسي قبل أن ندخل في التفاصيل.. حين ندخل لمعالجة حدود اللباس في مجتمعات الآدميين الحرة يجب أن نصطحب معنا هذا المنطق الأساسي والتوجه العام (الحريات تستلزم اللباس).. حينها سيتموضع النقاش في مكان جديد ومنطق جديد، لأن المنظور “البرادايم” نفسه تغير..
فالحرية لا تقف على مسافة واحدة من اللبس وعدم اللبس (الحرية أن تلبس أو لا تلبس) كما هو المنظور الحالي الشائع، بل الحرية الآدمية منحازة ابتداء إلى اللبس (الحرية أن تلبس).
الأصل حضور اللباس في المشهد العام وليس العكس.. لماذا؟ من أجل الحريات، لأن ظاهرة الحرية ستغيب وتسحق إذا غابت ظاهرة اللباس أو ضعفت.. والحريات ستكون أقوى حين تكون ظاهرة اللباس أقوى.. فالعلاقة الكونية بين الظاهرتين راسخة.