الفن في الشرق لا يتنفس الحرية (2)

أحمد وديع العبسي

0 1٬611

 

في شرقنا العربي بشكل خاص ثمَّة ظاهرة فنية لا تنتمي للفن، ولا تمثل رسالته، ولا تشبه أي فن آخر في العالم، وصراحة هي ليست ظاهرة واحدة، بل إنها المشهد الأكثر اتساعًا للفن العربي، والأكثر حضورًا في مختلف مجالاته إلا من استثناءات محدودة.

خُلِق الفن ليتنفس الحرية، ليكون شجاعًا، ليعبِّر عمّا لا يستطيع الناس التعبير عنه، سواء كان أغنية أو دراما أو سينما أو مسرحًا أو رسومًا أو موسيقى، أو أي مجال آخر يمكن أن يتبادر إلى ذهنك سريعًا عندما تذكر كلمة فن، أقصد هنا المجالات الأكثر رسوخًا في الذهن الشعبي والأكثر شعبية بين الناس، حتى لا أعمم على جميع الفنون، خاصة تلك الفنون النخبوية جدًا، التي تنتمي للصالونات أكثر من انتمائها للناس.

في شرقنا العربي الفن والفنانون لا يشبهون الأساطير التي يحاولون تجسيدها، أو التي تسكن ذاكرتنا الشعبية، لا يُعنون بالمجد ولا بالناس ولا بالرسالة، الفن في بلادنا تدجَّن بما يكفي ليبيض فقط، ليكون كالطحالب أو العلقات التي تمتصُّ دماء الناس، وتتعلق بالسلطة، وتُنافح عن المستبدين، وتقيم العلاقات المحرمة معهم من أجل الوصول للهيمنة والشهرة لا من أجل الوصول لقلوب الناس.

الفن في شرقنا يمتهن التفاهة، ولا تعنيه القضايا كثيرًا إلا بقدر ما تجلب المال والشهرة، إذ إنها عنده سلع للاستهلاك، لذلك نجد أن الدراما العربية مليئة بالقضايا التي لا نجد الفن يُدافع عنها بالحقيقة، ولا الفنانون يتبنونها أو ينتمون إليها.

الفنان رضي بدور المهرج الذي يُضحِك الناس ليُصفقوا له ويدفعوا أموالهم لمشاهدته من أجل أن يخرجوا من واقعهم الأسود، لكنه لم يفكر لحظة واحدة أن يكون بطلاً الناس ورمزاً لهم، يحمل همومهم وقضاياهم معه أينما ذهب، سواء عندما يُمثِّل أوجاعهم أو عندما يتصدى لها في الحقيقة، والجمهور تعِب من انتظار هذه الصورة المشرقة للفنان لدرجة أنه تقبَّله بصورته الراهنة، ولم يعد يهتم إن كان صادقًا أو كاذبًا، إذ يكفيه فقط أن يجيد التهريج والامتاع، فالجميع يرزح تحت سطوة الطغاة، والفنان لن يكون حالة استثنائية.

لا أريد أن أتحدث عن بعض الحالات القليلة لبعض الفنانين الأحرار، لأن الكثير من هؤلاء لا يستطيعون فهم المبادئ التي تستند إليها حريتهم وموقفهم من الطغاة والمجرمين، فليس حرًا من خرج على طاغية دمشق ثم انتمى بوقاحة لطاغية مصر أو طغاة الإمارات، ليس حرًا من خرج على طاغية مصر ثم استكان لطغاة الخليج، المبادئ هنا لا تتجزأ لمن يحمل على أكتافه رسالة حقيقة، ليس حرًا من تشدَّق بالحرية في الشرق ثم دافع عن غطرسة بعض دول أوربا تجاه قضايا لا يحبها.

لا أريد أجزم أن الفن نشأ في طبيعته الأصيلة في هذا الشرق على هذه الصورة، وبهذه القتامة والدونية واللامسؤولية والبُعد عن أي رسالة أو قضية إلا الإسفاف في التفاهة والتهريج حتى على أوجاع الناس؛ لأن الضحك الذي تصنعه الدراما على أوجاع الناس وآلامهم لا يحمل أي رسالة يهتم بها المجتمع، يل على العكس تمامًا، الفن هنا يعتاش على جراح الناس كعلقة سامة لا يهمها سوى الربح.

ربّما لم تأتِ سلطة إلى كل الشرق تدعم حرية الفن، فتدجن الفن سريعًا على هذه الشاكلة، وصار مجرد أداة لإنتاج المال والتسبيح بحمد المستبدين، ربما لا يستطيع الفن أن يبقى بدون رعاية، والشعوب أضعف من أن تقوم برعايته، فانحاز إلى حيث يستطيع أن يعيش، ربما هي قضية الفن ومن يعمل به أن يكون على مسرح طبل الحاكم الذي يصل صوته إلى كل مكان، وهو أداة القوة ورسالتها، وليس رسالة للضعفاء في هذا الشرق، ربما يكون الفن في العالم كله يسير على نهج واحد، لكن نحن الذي لا نعرف مرتكزاته خارج شرقنا نظن أنه يتنفس الحرية في الخارج.

الناس كانت تطرب لصوت نزار قباني وهو يجالد الطغاة، لكن لا أحد استطاع أن يضمن لنزار قبرًا في دمشق إلا الطاغية، لا أحد حاول أن يُدافع عن نزار ولا أن يقف بجانبه في الحرب التي يخوضها الشاعر من أجل الناس، ربما تعلم الفنانون أن قضية الشعوب خاسرة، وأن الفن يملكه الأقوياء، وهم مجرد أدوات في هذه اللعبة، فأخضعوا أنفسهم إلى مستوى الأداة، وتخلوا عن دور البطولة المكلف جدًا.

ربما ليس الفن نفسه من يفعل ذلك، فالكثير من المجالات تتحالف مع القوة من أجل أن تستمر وتعيش في عالم صار الإنسان جزءًا من المستهلكات فيه، ولم يعد الرهان على الإنسان رهان رابح أو حتى مقبول.

لكن أداة المقاومة الوحيدة لتغيير هذا العالم هو الفن، وأن يصبح مدجنًا لهذه الدرجة يعني أنه يشكل خطورة كبيرة على مستقبل البشرية جمعاء؛ لأن التخلص من صراخ المقاومة، هو دفن لأي احتمالات نهوض في المستقبل، والفن هو الصراخ الذي نقوم به لنقول إننا ما نزال أحياء، وما نزال نستطيع النهوض.

أخيرًا رغم كل ما حاولت (ربما) أن تفعله في هذا المقال، لا يمكن أن نستعيد وعينا وأهم ما يُعبَّر عنه ما يزال مستعبدًا وراكعًا تحت بسطار الطغاة في الشرق.

إن من أوجب ما يجب أن نهتم به هو إعادة بناء فن يتنفس الحرية، يستند إلى المبادئ، يمثل أحلام الناس، يُدافع عن مرجعياتهم وثقافتهم، يحكي لهم عن غاية وجودهم، عن تاريخهم، وعن مستقبلهم، يخلق لهم الإلهام الذي يستطيعون أن يحلموا من خلاله بغدٍ أفضل، يقاتلون من أجله، ويبقى عبرة وعظة ومنارة للأجيال القادمة.

 

المدير العام | أحمد وديع العبسي

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط