ما قبل بداية الثورة السورية ليس كما بعدها، حيث كانت الكلمة تكلف صاحبها روحَه، وكانت بمنزلة رصاصة تحاول اغتيال دكتاتور، فيرد الأخير بقتل صاحبها إما سجنًا أو إعدامًا بأحكام تعسفية، كلّ ذلك كان في دولة البعث وطائفته التي تقود سورية وجميع من يسير في دربه، فلم يكن لدى المدني، على اختلاف مذهبه أو عمله أو وظيفته، أي قدرة على مواجهة أي خلل مجتمعي أو فشل أو فساد، خاصة إذا اقترب من السياسة أو أحد المسؤولين أو المتنفذين الصناعيين أو بعض التجار الكبار الذين كانوا يحتكرون بعض التجارات مثل استيراد السيارات وبعض المعدات الصناعية والنفطية.
الخوف من الاختفاء أو القتل أو السجن بتهم لا تمت للقانون الإنساني بأي صلة، جعل أصحاب الرأي يفضلون عدم الخوض بما يمس الفساد أو أي شيء يتعلق بالسلطة، واقتصارهم على بعض القضايا الاجتماعية البسيطة أو أخبار الرياضية والفن.
عام 2000 م – لا يمكن أن أنسى ذلك الموقف على الرغم من صغر سني – كنت في الثانية عشرة من عمري عندما توفي (حافظ الأسد) وقبل أن يُبث الخبر على شاشة التلفاز بدأ ينتشر كالنار في الهشيم، عندها أخبر أحد أقاربي والدي وهمس في أذنه ولم أستطع سماعه، فسألت والدي ماذا حصل فقال لي بصوت خافت: “مات الرئيس، ولكن لا تتكلم بهذا الأمر”، كان الجميع يخفضون صوتهم أو يغيرون سياق الموضوع عندما تطرق السياسة باب الحديث، فكيف بهكذا خبر؟! كانوا يقولون: “إن للجدران آذان”.
ومع بداية الثورة السورية العظيمة تحررت حرية الكلمة والرأي، إنما بشهداء وأعوام من الدمار والتهجير ارتكبها بشار الأسد ومن يعيش بكنف حكومته الفاسدة بجميع مفاصلها وحلفائه.
مع طول أمد الثورة وبروز أجسام وتشكيلات لإدارة المناطق المحررة، وتعاقب عدة ألوان منها المستقل أو المنحاز، ومنها المتدين أو المتشدد أو حتى المعتدل، عانت حرية الرأي ومنها الصحافة والقلم والصورة، العديد من الصعوبات في كل زمن بحسب توجهات وأهواء من يديرها، مع اختلاف النسبة وانعدام التناسب بالمقارنة مع أيام الاحتلال الأسدي.
أصبح بمقدورنا أن نشجب فلان ونشتكي على تصرفات آخر أو الادعاء على منظومة معينة وفق ضوابط اختلفت من مرحلة إلى أخرى، وأسعد الأوقات عندما تستطيع أن تغير واقع معين لشخص أو مجموعة أشخاص عبر تسليط الضوء إعلاميًا عليها، فتضطر الجهات الحاكمة إلى أخذ الموضوع على محمل الجد وحلّ أي مشكلة في نطاق القدرة.
والأمثلة كثيرة، المخيمات والمآسي التي يعيشها قاطنوها، والأمراض المستعصية والتي أصبح من الضروري نشرها على الإعلام كي يتم التفاعل معها وإيجاد الحل المناسب لها من دعم أو نقل إلى بلد آخر، وقضايا الرأي الأخرى، فقد استطعت بقلمك أو كاميرتك أن تنقذ روحًا شارفت على الأفول، والعديد العديد من المشاكل الاجتماعية والفساد وغيرها بات من الممكن تسليط الضوء عليها والتكلم بها وأحيانًا يتم حلّها.
جميع الإيجابيات التي ذكرتها لا تمنع وجود عوائق وصعوبات تعيق الرأي الحر وتقيّد عمل الصحافة على مختلف أنواعها، وهو ما علق بأذهان عدد من السوريين على مدى عقود من الظلم والاستبداد وتكميم الأفواه، فعندما حصلنا على بعض حريتنا برز من نصّب نفسه مديرًا أو قائدًا أو “لقلوقًا” لهما، وتفنن في عملية تكميم الأفواه ليبقى ديك الحي ولا ينازعه أي ديك بالصياح.
تمردنا على الديك وعلى كل ديك يأتي بعده ولم يبقَ دجاج في قلوبنا، هدّمنا كل أسوار السجون وخرجنا إلى فضاء الحرية رغم أن الفاتورة كانت باهظة الثمن، ولكن استنشاق هواء الحرية لمن بقي منا، يكفينا لنكمل المشوار.
لكل حق من حقوق الإنسان حدود، ومنها الحرية، ففضاء الحرية الواسع الذي شاهدناه بأمثلة كثيرة حول العالم وبدوله المتحضرة، لابد له من قوانين وقيم إنسانية وأخلاقية تحكمه، فلا الإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم تعدُّ من حرية التعبير الديني، ولا فضح الأعراض أو المتاجرة بها من حرية التعبير الأخلاقي، ولا إهانة الضعفاء والفقراء أثناء تسليمهم الإعانة من الحرية الإنسانية في التعامل مع البشر مهما كان مسمى العمل (التوثيق الإنساني) وتندرج جميعها في إطار السلبيات التي تجرها الحرية المطلقة.
إذًا لا يوجد حرية مطلقة للإنسان، إذ يجب أن يكون هناك ضوابط دينية وأخلاقية وإنسانية، فالالتزام بتلك الضوابط مجتمعة أو متفرقة بحسب الحاجة يُشكل المعنى الحقيقي لحرية الرأي دون الإضرار بالآخرين، فعندما يحترم الإنسان حرية الآخرين سيمارس حريته دون عوائق، وكما قال الفلاسفة القدماء: “تنتهي حرية الشخص عندما تبدأ حرية الآخرين” فهي تراتبية مرتبطة ببعضها البعض.
فإذا اعتمدنا على هذا المبدأ وانطلقنا في سماء الحرية المضبوطة بالضوابط سابقة الذكر سوف نحصل على الحرية المنشودة التي تم بذل الدماء والشهداء من أجلها على مرّ سنوات الثورة، وستكون نموذجًا معياريًا للحرية في ثورات الربيع العربي فيما لو نجحنا بذلك على أكمل وجه.