ربما لا تشبيه يعبر عن روح العصر الذي نعيشه أفضل من هذا التشبيه، فالفقاعة تنشأ بسرعة بمجرد أن تنفخ الهواء فيها، وسرعان ما تنفقع بسرعة، فجسمها الخارجي أهش من أن يتحمل أي صدمة مع المحيط، وحتى إن أمنت الصدمات فجدرانها غير قادرة على تحمل ضغط الهواء الذي تحمله، فحتى الخواء يُسرّع من انتهاء الفقاقيع وتلاشيها.
وعالمنا مليءٌ بمن يحترفون نفخ الفقاقيع وإطلاقها حولنا في كل مكان واستبدالها بسرعة كبيرة، ونحن لاهثون وراءها نستهلك تلك الفقاقيع بسرعة كبيرة، حتى غدت حياتنا أشبه بفقاعة سرعان ما تنفقع دون أن نشعر.
وبينما نحرك أصابعنا لنستعرض على الهاتف الفقاقيع من حولنا بسرعة وشهية، يمرّ أحدهم على نعوة وفاتنا بنفس تلك السرعة دون أن يتوقف للحظة صمت أو دعاء، ويمرّ آخر على نعوة وفاة الأول، وهكذا … حتى لا يبقى مكان لذكر موتنا في هذا العالم، ويصبح الموت أكثر سرعة وهشاشة من أن تحتضنه فقاعة.
والمشكلة أن الناس يحبون هذا، ويهتفون للفقاعة ويفرحون بها حتى زوالها، رغم معرفتهم أنها لن تعمّر، ولن تدوم طويلاً، وهي أتفه من أن يتلقاها المرء مرتين متتاليتين، لكنهم مهووسون بها، وكأنهم صاروا يدركون أن الجديد الذي يتوقون إليه لن يأتي ما لم ينفقع القديم! والهوس بالجديد صار جنوناً لا تستطيع نواميس الحياة أن تدركه، لذلك باتت الفقاقيع متشابهة لا فرق بين قديمها وجديدها سوى بأوقات الولادة والموت، وصار الناس نسخاً تشبه الفقاقيع يستعجلون انتهاء كل شيء، في سبيل شيء جديد، كلون فقاعة أو حجمها. وهذا هو أقصى غايتهم.
فأحاطت بهم الفقاقيع في كل المجالات، في الثقافة والفن وفي السياسة والاقتصاد …، وحتى في الإعلام والأخبار، صار كلّ شيء مهما بلغ شأنه، لا يغدو عند الناس فقاعة، سرعان ما يتجاهلونها أو يتناسونها، حتى ولو كانت دماءً وحرباً ومجزرةً وموتاً، كثرة انتشار الفقاقيع حول الناس، طبعت حياتهم بطابعها، فصاروا يتعاملون مع كل شيء كما يتعاملون مع الفقاعة!!
وأكثر ما خسره الناس في هذا العصر هو ذاكرتهم، والذاكرة هي الحياة، ما نتذكره هو ما يرسم لنا مدّة حياتنا، ونحن لا نتذكر من حياة كالفقاعة شيئاً سوى أنها انتفخت ثم تلاشت، وكل ما حولنا مرّ بهذه الطريقة، بمقدار تحرك أصبع على شاشة جوال، كل شيء سريع ومتشابه، لا يكاد يبقى منه في الذاكرة أي شيء. ولماذا يحتفظ الانسان في ذاكرته بقدر كبير من التفاهة استهلكها فقط من أجل أن يتسلّى ويضيع وقته الطويل الجاثم على صدره في عصر لا يملك فيه فعل أي شيء، سوى الاندهاش بفقاعة!، لم يعد لديه حتى القدرة على نفخها أو تشكيلها، وصارت حياته أهون من فقاعة، قد لا يسعفه القدر حتّى في أن ينتفخ، وغالباً ما يتلاشى كالصابون الذي يبقى عالقاً بقعر علبة الفقاقيع، التي صار لها مختصون يصنعونها، وينفخون البعض ليعيشوا حياتهم الطويلة كفقاعة، ويبقى الآخرون يتابعون حتى يأتي دورهم في الانسكاب على الأرض، لا حظَّ لهم إلا بالفرجة.
إن الاستسلام لهذا القدر من الحياة وما تعرضه علينا في وسائل التواصل الاجتماعي، هو استسلام لطموح أقصاه أن ننتفخ ثم نتلاشى بلا أيّ قيمة، سوى أن نتسلى قليلاً، ونكون تسلية لغيرنا، نعيش في عالم الاستهلاك والتفاهة والحاضر، لا ماضٍ يحفظ ذاكرتنا، ولا مستقبل نطمح إليه، تصبح الحياة مهما طالت محفوفة بلحظة واحدة، لا ندرك بدايتها ولا نهايتها لأننا مغموسون بذلك السائل العجيب الذي ينفخ التفاهة من حولنا، نتابع ونلهث وراء الملذات والمتعة الفارغة، ننشده بها، أو ننتفخ بما انتفخت به.
وهذا ما يريده صانعوا التفاهة وعبوات النفخ، أن نكون جزءاً من عالمهم، أداة للاستهلاك، ومستهلكات في نفس الوقت، أن ندفع ثمن هذا الخواء من أرواحنا، وأن نبيعه من أرواحنا أيضاً، أن نتحول إلى عبيد، قطيع من البهائم، جزء من السوق، وحفنة من الخدم.
والخروج من هذا العالم ليس صعباً، إنه أبسط مما قد يتوقع أي أحد، ولكنه ليس سهلاً أيضاً، لا يكلف سوى الابتعاد عن أدوات النفخ والتوقف عن تعاطي التفاهة والاستمتاع بها، والتوجه نحو العمل، واستثمار المنصات التي تستهلك حياتنا بما هو مفيد ونافع وذو قيمة، البداية ستكون صعبة وشاقة، ولكنّ إعادة صناعة الحياة القيّمة ممكن جداً.
كخطوة عملية بسيطة يكفي أن تسجل في نهاية كل يوم ذكرياتك عما فعلته فيه، ثمّ تأتي كل أسبوع لتشطب كل ما ليس له قيمة من هذه الذكريات، وتركز على ما هو ذا قيمة وتتابع به، فالذاكرة هي العتاد، وهي ما تضمن أننا نعيش حياة أطول من لحظة عابرة وفقاعة سريعة التلاشي.