في حضرة الفارس

صهيب طلال إنطكلي

تشييعُ محمد فارس
2٬375

في طفولتي، كنتُ عندما أصعد إلى الجبل في ضيعتي دركوش فأرى نهر العاصي يتبخترُ تحتي، وأجلوَ بصري في كلّ تفاصيلٍ بيوتٍ نائمةٍ على ضِفّتَين، وأشجارٍ متدلية، نصفها أو انقص منه قليلًا في الماء، أشعر حقًا بالمهابة، ويملؤني خوفٌ طفولي يمتزج ربما بروح المغامرةِ، كلّ هذا لأني علوتُ فصرتُ أُبصرُ الأشياء من فوق، كان هذا عام 1987 حينما كنت طفلًا يسمع كل مَن حوله، يتحدثون عن رجلٍ وطنيٍّ جدًّا، ارتقى بنفوسنا عاليًا علوّ السماء التي صعد فيها.
في المدرسة وفي البيت وفي كل مكان ملأ الرجل الطائرُ الدنيا حينها وشغل النّاس، أذكر أني من فَرطِ دهشتي، سألت أبي ببراءة “كم ارتفع يعني”؟ قال إنه حلّق عاليًا جدًا جدًا، حتى أنه كان يرى كل الكرة الأرضية كما أنتَ ترى كرتك هذه، وأشار إلى كرة قدمٍ في زاوية غرفتنا تنام بسكونٍ بعد أن أمضت يومًا تامًّا تتقافزها الأقدام.

إن هذه الذكريات أتتني وأنا أمشي الاثنين 22-4-2024 بعيدَ العصر مع الآلاف الآلاف في جنازته بخشوعٍ وأمل، وهذا الخشوع عرفناه، فما بالُ الأمل؟ لا تتعجل يا قارئي أعدك أنك ستشعر به معي.

اقرأ أيضاً: الحاج إسماعيل الزعيم.. رسائلُ من الطرازِ المُشرِق

إنه محمد فارس، ذاك الذي كان له من اسمه نصيبٌ وافر فكان محمّدًا مليئًا بصفاتٍ حميدةٍ، شبهًا بصاحبِ الاسم الأول صلى الله عليه وسلم، وكان فارسًا لكنه لم يمتطِ جوادًا، لا، لقد امتطى مركبةً فضائية في محطة الفضاء السوفياتية مير، فتخيل يا قارئي!

لقد كان ثاني اثنين من العرب صعد إلى الفضاء، قال محمد فارس: “الإنسان يولد مرة، لكن رائد الفضاء يولد مرتين، الأولى من رحم أمه، والثانية من رحم الأرض”. ويذكر تفاصيل رحلته يوم الثاني والعشرين من تموز عام 1987 فيقول، إنهم كانوا يحلقون بسرعة 28 ألف كيلومتر في الساعة، أي خلال 90 دقيقة يدورون حول الأرض دورة كاملة، واستمرت الرحلة 7 أيام و23 ساعة.

كل هذه الأفكار كانت تتقافز في عقلي وأنا أسير في الجنازة المهيبة، لم يكن تشييعُ الفارس اليوم لنقله إلى مثواه الأخير فحسب، لا والله، لقد تجاوزنا اليوم هذا المعنى بعيدًا جدًا، فكان التشييعُ تعبيرًا حاشدًا منّا نحن السوريين الأحرار أنّنا على عهد الثورة باقونَ حتى النّصر المبين أو الرّميم، كانت أعلام الثورة المرفوعة تخفق فوق رؤوسنا وحدها، لا علمَ آخر يمثلنا، كان التشييع يقول: إن الثورة توحدنا، وإنا كلما ظنّ الغيرُ أنّنا خبَونا خرجنا ننفض الرمادَ وننادي ببُحّة أصواتنا: “حرية للأبد، غصبًا عنّك يا أسد”، كان التشييع يرسل رسالة إلى كلّ مَن يظن أن ذاكرتنا قصيرة ويراهن أن ننسى، قلنا اليوم بالآلاف أننا لم ننسَ ولن ننسى، فيا أيها الظانون بنا ظنّ السَّوء عليكم دائرةُ السَّوء.

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على واتساب اضغط هنا

نصطف صفوفًا لانهاية لها لنصلّي عليه، همس صديقي في أذنيّ، قال: ماذا فعل محمد فارس حتى يكرمه الله بأن يصلي عليه آلافٌ ويشهدٌ له آلاف، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: وجبتْ، أي الجنةُ، لمن شهد له بخير بعضٌ من المؤمنين لا تتعداهم أصابع الأيدي.

الإمام يكبّر، ونحن نكبّر، والفارسُ في النعش لَهوَ أسمعُ منّا، يشعر بنا، فرِِحٌ بإذن الله تعالى بما آتاه الله من فضله، ويستبشرُ بنا ألا خوفٌ علينا ولا أنتم تحزنون.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط