في ذكرى الثورة، اثنا عشر عاماً من الحرب والأزمة

أحمد وديع العبسي

1٬534

لا أملُّ كل عام من إعادة انتقاد الثورة، أو بالأحرى انتقاد استمرارها بنفس الطريقة التي بدأت بها، وقد تغيرت كل الظروف التي رافقت تلك البدايات، وتغيّر حتى معظم الناس الذين بدؤوا منذ أكثر من عقد هذه الثورة العظيمة، فالكثير من شباب (الثورة) اليوم كانوا أطفالاً، بالكاد يدركون أن أزمة أو ثورة قد اجتاحت البلاد، واليوم هم شباب الثورة ومؤسساتها وخريجو جامعاتها، وجنود حربها، هم مستقبلها وضحاياها، ولكن الكارثة أن كل ذاكرتهم عن الثورة هي “نحن”، هي ما نحاول تلقينهم إياه، وما نعمل على تحميلهم أمانته المليئة بالدماء والوصايا والثأر والانتقام والجنون، دون أن نترك لهم حتى حريّة أن يخوضوا الثورة التي تخصّهم، أو يفكروا بطريقتهم التي يريدونها لإنهاء الحرب واستعادة بلادهم.

لقد جعلنا من أنفسنا أوصياء على الثورة والبلاد، وأوصياء على الأجيال، أنصاف آلهة .. نحدّد ما يجب في هذه البلاد وما لا يجب، ما ينبغي أن يكون وما لا ينبغي، نحدّد من هم الثوار، ومن هم المتخاذلون، ومن هم الخونة، وكيف يجب أن يكون النضال، إنّنا نمتلك صكوكاً لا تنتهي، أكثر من كلِّ تلك الصكوك التي وزَّعها باباوات روما وأوروبا، ولقد بنينا أصناماً أكثر من تلك التي بنتها قبائل العرب حول الكعبة أو بناها الطاغية في بلادنا.

نُطلق أحلامنا وصراخنا المجنون في كل عام بضرورة استعادة سيرة الثورة الأولى، ضرورة أن يرتدّ هذا الجيل ناكصاً على رأسه ليتمثّل أساليباً وشعاراتٍ وطرقاً في الثورة لم تعد تلائم لا الزمان ولا المكان ولا النتائج المخزية التي وصلنا إليها، نريدهم أن يجتروا هزيمتنا ليصنعوا منها نصراً يليق بنا لا بهم، يُعيد لنا الإحساس بالمجد والفخر، فنحن من فعلها ونحن من قادها ونحن من جندل الخوف على أبوابها، ونحن من يستحق ألقاب البطولة ونياشين النصر إذا ما تحققت المعجزة وانتصرت الثورة، إنّنا نحن أبناء الثورة وآلهتها والمعصومون بأمرها والمطحونون برحاها أفلا نستحق ذلك!!!

إنّنا نريد أن تنتصر ذواتنا وخيباتنا، نريد أن نرضي غرورنا عندما نصرُّ على الثورة ونمجد أيامنا بها، ونحن!! من نحن بالحقيقة؟! نحن الأبطال الذين تنطبق علينا كل الصفات التي يودّ الثوار أن يتّصفوا بها، ولكننا المهزومون أيضاً، الضعفاء، الهاربون، المهجرون إن أردتم، المخذولون والمتخاذلون، الظالمون والمظلومون، الساكتون عن الفساد، المغلوبون على أمرهم، والصامدون والضحايا … هل يجب تفسير كل تلك المفردات؟ ربّما …

وربّما يعرف تفسيرها كل أولئك الصادقون المخلصون الذين ما زالوا يتمسكون بثورتهم بطيب وإخلاص وسذاجة، ويختارون الموت على أن يعيشوا في عالم جديد لم يتوقعوا أن يكونوا سبباً في تكوينه، وهم يموتون بغزارة، ونحن ننعيهم بغزارة أيضاً على أنهم الثوار الذين يجب أن نتمسك بما ماتوا عليه!! …

نعيش واقعاً نرفض فيه أن نستوعب الواقع، ونصر على الغرق في الأحلام والأوهام والتراجيديا التي ننتشي بجمالها وسكرها، نصرّ على أن نكرّر خيباتنا، وعلى استعمال نفس الأساليب والأسلحة والأدوات والاستراتيجيات والشعارات التي جربناها اثني عشر عاماً ولم تجلب لنا إلا الهزيمة والخسارة والفاجعة، علّها في المرة القادمة أن تستولد لنا نصراً من رحمٍ عقيم مدبج بالأماني والتوسلات والمصادفة.

لا شكّ أنّ هذه الثورة عظيمة، ولا شكّ أنّ ذكراها تستحق أن تحيا لألف عامٍ قادمة، ولا شكّ أنّ من قام بها هم أبطال يستحقون التبجيل والخلود، ولا شكّ أيضاً أنّها وصية عظيمة للأجيال اللاحقة حتى يُكتب النصر، ولكنها تقف هنا، عند كونها وصية وذكرى ولحظة فارقة، ولا تستمر كثورة، فالثورة انتهت، أسلوبها عاداتها وتقاليدها وزمانها انتهى ..

إننا في حرب منذ سبع سنواتٍ على الأقل، حرب مفرطة، يجب أن نقودها كحرب وكمعركة، لا كثورة، لم يعد ينفع أن نعلن استمرار الثورة، علينا أن نُعلن استمرار الكفاح في سبيل الحريّة والعدالة، لا في سبيل الثورة، فللمرة الألف أريد أن أقول، إن الثورة أداة لا قيمة، نحن نبذل الثورة في سبيل القيم ولا نبذل أنفسنا في سبيل الثورة، نريد أن تستمرّ الذكرى، لا أن نقاتل بنصل مكسور وبندقية خربة، نريد أن ينتصر الوطن لا الثورة وأن يرضى الله لا الثوار، وأن نحقّق العدالة لا الانتقام، وأن نبني البيوت لا المقابر، فنحن نبذل أرواحنا إرضاء لغريزة الحياة، لا لعجز الموت.

إن من حقّ الأجيال الجديدة أن تقرر سبل كفاحها، وأن تقرر أسلوب حياتها، وأن تقرر الخطوات القادمة، أمّا نحن فواجبنا أن نحمي ذلك الحق. أن نحمي الحياة، أن نكفّ عن الجنون، أن نبدأ بالتغيير، أن نتخلّص من أزمتنا العالقة في وجداننا كصنمٍ يأكل قدرتنا على التفكير بحلٍ آخر قد لا تكون فيه الثورة ولا حتى في الحاشية، يجب أن نتعلق بالأهداف بالناس بالمعتقلين بالمشردين بالقيم بالحرية بالعدالة بالغد، بإصلاح ما وصلت إليه خسائرنا المتلاحقة، لا بالموت والدماء والماضي، هناك ما يمكن إنقاذه وما نستطيع إنقاذه إن شئنا أن نفعل، ونحن قادرون إذا توقفنا عن رؤية الواقع كنوع من الدراما المسرحية المتعبة، علينا أن لا نتفانى من أجل نزع السيف من جوف الأرض لاكتشاف المخلِّص المنتظر، وإنّما علينا أن نصنع سيوفنا ونردم التراب فوق تلك الخرافة وندوس بأقدامنا فوق ذلك الردم لنتقدم خطوة أخرى …

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط