على مرِّ العصور والأزمان كانت الكلمةُ هي السيدة الأولى في المجتمع، السيدة التي يهابها الجميع، والقادرة على إشعال الحروب وإخمادها في دقائق معدودة فقط!
السيدة التي تمتاز بالإيجابية والسلبية في آنٍ معاً، فهي عند كلِّ فئة من المجتمع تتقنَّع بقناع مختلف، وليس حالها عند المصلحين كما هو عند المفسدين إطلاقاً!
المصلحون يرَونَ أنَّ في الكلمة سبيلاً للخلاص والتحرر والتعبير عن الرأيّ، أمَّا المفسدون فعجباً لما يرَونهُ من ملامح أشباحٍ مخيفة تقبع خلف كلِّ كلمة، وعجباً للرُهابِ الذي يغشاهم إذا ما انقضّت تلك الكلماتُ من الأفواه ضدهم، وكأنَّها انتفاضة رصاصة من فوّهَةِ بندقية!
لذلك يَحرصُ جميع القاطنين في عالم السلطة أن يغلقوا تلك الأفواه بأيّ طريقةٍ كانت، فالكلمة عندهم تعني رجلاً سياسياً قويّاً يشكّل خطراً على أمنهم القوميّ ويهدد استقرارهم حتى وإن كان قائلها مزارعاً!
هذا ما دفعهم للمسارعة في إخماد العقول إخماداً تعسفياً و إدخالها في غيبوبة ذهنية و شلِّ قدرتها على الصحوة تماماً، وإبعادها عن مسامع و أنظار المستضعفين لئلا تحركَ فيهم ساكناً فيتأثرون بها.
بالرغم من أنَّ القوة والخطر قد يكمنان في أشياء أخرى غير الكلمات إلا أنَّ الطغاة لا يتصببون عرقاً ولا يحصرون في ضيقِ الزوايا إلا عند مجابهتها! فرجلٌ مفكرٌ يملك من الوعي والتفتح ما لا بأس به وإن كان هزيلاً منحول الجسد يزلزل أركان قلوبهم رعباً أكثر من آخر مفتول العضلات يليّنُ الحديد بأصبعين لكنه ينعق بما لا يفهم …!
فهم على يقين بأنَّ عضلاته الهوجاء تعجز أن تقوم بما ستقوم به تلك النحيلة الموجّهة. ومن المؤكد أنَّ الناس العاديين لا يشعرون برهبة كلماتهم التي تربك الطواغيت وتقف في حلوقهم
كالشوكة فتجرح وتدمِي وتميت إن هي تمكنت وتأصلت.
كذلك هي حال الدعوات النهضوية ونداءات التوعية والاستفاقة، هذه الوحوش التي تراود أحلام المستبدين في السلطة، وتأكل ذهبهم وكنوزهم وتودي بسلطانهم في مهب الريح، وممَّا لاشكَّ فيه أنَّ الظالم لا يخشى الأناسَ الأقوياء، فهو قادرٌ على أن يأتي بمن هم أقوى لصدهم، ولا يخاف من الطامعين بثرواته بقدر ما يخاف من المتحررين، فجزءٌ يسير ممَّا يملك يستطيع أن يسدَّ به جشعهم، أمَّا النهضويون فمقتنعٌ هو في قرارة نفسه على عدم استخدام الأسلوب نفسه معهم كما يفعل مع الطامعين فيعمل على إرضائهم بشكل آخر، فالكلمة التي يقولونها عن عبث ولا يلقون لها بالاً يصغي إليها الطاغوت بكلِّ حذر وترقّب، فإنْ هي تمادت لتخرج من طور الكلام إلى طور التنفيذ سارع بكل ما فيه لإماتتها شرَّ إماتة، لكنَّه مهما حاول لن يستطيع فعل ذلك وحده، وهنا تجدر الإشارة إلى أولئك الأعوان إن صحت تسميتهم بالأيادي الخفيّة التي يعتمد عليها الطاغوت حقَّ الاعتماد، فما من مفسدٍ ولا فاسدٍ إلا ويتكئ عليه في زيادة الإفساد و تنميته، فيشكلون بذلك سلسلة سوداء يبثون منها كلَّ ما يُدعِّمُ مصالحهم بفصل فئات الأمة عن بعضها و لو كان ذلك على حساب حياة مجتمع بأكمله !!
وحريٌّ بنا أن نستحضر المنهجية التي سار عليها طاغية دمشق من تفريقٍ وتشريد وقهر، من مظالم المحاكم وزجٍ في سجون التأبيد لكل من كان له رأي سياسي لا يتفق معه ولو ببند واحد! فما على جيل التحرر اليوم إلا أن يبقى منادياً بالعدالة والتغيير ورفع الظلم، وأن يحمل بيمينه قلماً وبيساره بندقية، وأن يتأهب لإطلاق المفاعل النووي المخبوء تحت لسانه، ولنتذكر أنَّ سرَّ النصر يكمن في وحدة الكلمة.