كيف يبدأ التغيير – تحريك القاعدة 5 (التشبيك والانجراف)

أحمد وديع العبسي

649

في هذه المقالة الأخيرة سأتحدث عن آخر خطوتين، وهما متصلتان ببعضهما جداً، لأن جودة تحقيق الأولى تؤثر في نجاح الثانية:

 

الخطوة الثامنة: التشبيك وليس الهيكلية

بناء العلاقات لا الأجسام، لأن العلاقات أكثر امتداداً وديمومة، ذلك أنها لا تتأثر بالمشكلات التي تفرزها الهيكليات الكبيرة أو الصغيرة، ولا تتأثر الشبكة بانهيار أحد أجزائها بشكل كبير كما يحدث في الهيكليات التي قد تتدمر كلياً عند انهيار أحد أجزائها أو تصبح هيكلية خاملة، تطفو على السطح دون تأثير حقيقي.

التشبيك يتيح حرية أكبر في العمل والتكتيك واتخاذ القرار، والسير تجاه الهدف مع اختلاف الظروف، لأن كل جسم صغير أدرى بما يحيط به، بينما الاندماج والهيكليات الكبيرة والموحدة للتغيير تفرز عطالة في بعض أجزائها، ويكون اتخاذ القرار فيها صعباً جداً بسبب توسعها وتوزع مفاصل القوة فيها بشكل عشوائي، وتبعيته لمجموعة من الإجراءات التي قد يصعب تنفيذها، كعقد اجتماع مثلاً لأصحاب النفوذ، أو يتسبب اختلاف وجهات النظر في تعطل الكثير من القرارات والاتجاه نحو الركود والملل، أو تسلل آفة الكفاية على اعتبار أن هناك من يعمل في الهيكل ويحمل الجميع بعمله.

غير ذلك فإن الهيكليات تتركز فيها القوة الحقيقية في الذروة أو الإدارة العليا، بسبب احتكاكها المباشر مع المحيط، بينما تكون القاعدة والأطراف أقل قوة، وبالتالي تتساقط عند حدوث الاصطدامات وتنأى بنفسها وتعتبر أن الذروة هي المسؤول المباشر عن المواجهة.

إضافة لمعاناة الهيكليات من وهم القوة كلمات اتسعت الهيكلية، الحشود في الخلف تتوهم قوة الذروة، والذروة تتوهم قوة الدافعية من الحشود، ولكن ذلك يكون وهماً في الغالب لكلا الطرفين بسبب التنظيم الصارم في الهيكلية الذي يترك الكثير من أجزائها يعاني من الرتابة والخمول وضعف الحيوية.

بينما الاحتفاظ بمجموعات صغيرة وأفراد على تواصل كبير وفعّال مع حرية كبيرة في التكتيك والحركة ورسم الاستراتيجيات تجاه الهدف والمشورة، يعطي قوة وتأثير أكبر، وبمنح احتكاك فعّال بالمحيط لكل عناصر قوى التغيير، ويعطي انطباع بالسيطرة على البنية لأن صدى الحركة موجود في كل أجزائها.

ثم إن مواجهة البنى الشبكية لا يتم إلا ببناء بنى شبيهة تتألف من كيانات قائمة وقوية في مختلف أجزائها، مرنة وحيوية، لا بتأسيس هيكليات صلبة ومتثاقلة، وبيروقراطية، هذه النماذج تصلح لإدارة المؤسسات والدول والكيانات المستقرة أكثر منها لعمليات واستراتيجيات التغيير.

 

الخطوة الأخيرة: الانجراف وليس الاختراق

لا يعني هذا أننا ضد الاختراقات ولكن بقدر معقول وقابل للسيطرة والإدارة وضمن الجاهزية والكفاءة والخبرة .. والاختراقات يتم تفعليها في المدى المرحلي المتناهي، وليس كاستراتيجية طويلة المدى، لأن الاختراقات عادة ما تحتاج للتصادم، وهذا كما قلنا آنفاً سيسبب خسائر، لا نريد أن تكون مستمرة. بينما الانجراف يحدث من خلال توزيع محركات القوة في كل البنية الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وتتحرك هذه المحركات بحسب طاقتها لا بحسب طاقة المجموع، مما يؤدي إلى تحريك القاعدة كلها وبدء عملية التغيير، هذا التحريك يكون منسجماً ولكنه ليس على وتيرة واحدة، وإنما من خلال ترددات متناوبة تتبع لقوة المحركات، وبالتالي يصعب معرفة المركز، ويصعب ضرب عملية التغيير، ويصعب فهم آلية الحراك، لأنها لا تتجه ضمن هدف واحد، وإنما تتجه ضمن أهداف مختلفة بحسب اختصاص محركات التغيير وقوتها.

وإن نجاحها في مكان وإخفاقها في مكان آخر يعطي فرصة جديدة لتعافي المحركات المخفقة وتلافي فشلها وإعادة المحاولة، كما أنه يضعف بنية النظام عن المقاومة ويشتتها بشكل كبير ويجعلها تعيش حالة من الفوضى ويعزز الصراعات الداخلية، والانسحابات من مراكز القوة القديمة.

 

أخيراً … هذه بعض الخطوات أو المفاهيم التي حاولت شرحها من خلال هذا المقال الطويل نسبياً، وهذه الخطوات ربما تسمح لنا في حال عملنا عليها بشكل جدي أن نبدأ عملية التغيير ونستطيع تحريك القاعدة قليلاً وخلق فرص حقيقية للأجيال القادمة عبر كسر حالة الاستعصاء التي نعيشها، وربما تحقيق الانجراف إذا ما تضافرت الظروف وتوفرت الفرصة في لحظة معينة. المهم أن نبدأ، أن تغير طريقة التفكير بالتغيير، أن نكون أكثر مرونة، وأن تكون أهدافنا أكثر واقعية، وأن لا نعيد ارتكاب نفس الأخطاء، ولا نعمل بنفس الاستراتيجيات القديمة ونرتجي الوصول لنتائج مختلفة.

الأمر يبدو أكثر تعقيداً من السهولة التي يفرضها خيال المواجهة، فليست الدماء هي الفاتورة الأهم التي يتم دفعها في عمليات التغيير، وإنما عدم التعلم من التجربة القاسية هي الفاتورة الأهم التي يمكن أن تعيدنا لنقطة الصفر في كل مرة إذا لم نحسن الاستفادة منها.

الحروب والمواجهات والتصادم هي الوسائل الأكثر تقليدية على الإطلاق، وهي الوسائل التي تحترفها البنى القديمة بكفاءة مرتفعة، وهي أكثر الوسائل التي تستند إلى محركات القوة التقليدية التي يصعب مجاراة البنى القديمة بها، وهي الوسائل التي عادة ما تحقق تغيير على السطح بدون جذور ومرتكزات يستند إليها، وبالتالي تعتبر أضعف الوسائل في صناعة التغيير، … لذلك لا بدّ من البدء بطريقة جديدة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط