ما بعد الاستشراق، كيف تحولت الدعاية الغربية عن الشرق إلى حرب

أحمد وديع العبسي

786

من المهم في البداية أن أؤكّد أنني أكتب مقالة تعبر عن متابعات ووجهة نظر عامة، لا تهدف إلى تأصيل للمسألة المطروحة، فالاستشراق بحث كبير، أوسع من أن يختصر في مقالة واحدة أو حتّى مجموعة من المقالات، ولكنّ لا بأس من إيراد بعض الملاحظات في مقالة هنا، وأخرى هناك، تسلط الضوء على بعض جوانب الاستشراق، وتطورات النهج الاستشراقي، بما يدفع القرّاء المهتمين إلى البحث والمتابعة والتقصي عن المعرفة.

باختصار تمّ تعريف الاستشراق بأنه وجهة النظر الغربية التي كونها الغرب عن الشرق بناء على كتابات المستشرقين، التي لم تكن حيادية ولا موضوعية، بل كانت موجهة بشكل كبير من أجل رسم صورة نمطية عن شرق متخلف وعن إسلام عدائي يحكم هذا الشرق، بغية خلق حالة من العداء بين الشرق والغرب لا تسمح بمرور الشرقيين بسهولة إلى المجتمع الغربي، وتمنح الغربيين حالة من الاستعلاء العالمي على كل ما ليس غربياً، وبالتالي ساهم الاستشراق بشكل كبير في رسم صورة تفوق الغرب، وفي حركة العولمة الغربية ثقافياً وحضارياً، عبر ازدراء بقية الثقافات واعتبارها متخلفة ودونية، والتي كانت بمعظمها ثقافات مشرقية – إسلامية، أو على الأقل كانت الثقافات الأكثر استهدافاً بحملات المستشرقين هي الثقافات الإسلامية والحواضن المشرقية القريبة منها، التي تشاركها القيم والحضارة.

حاول الكثير من أبناء الثقافات المستهدفة كطيباوي والسباعي وإدوارد سعيد والمسيري وحلاق، وغيرهم إيضاح هذا البعد الاستشراقي، والتنبيه على الدعاية التي يحاول المستشرقون تبنيها وترويجها حول الشرق، ومحاولة نقد مناهج المستشرقين وتبيين زيف ما يأتون به، والإشارة إلى الأبعاد الحضارية العظيمة في الشرق عموماً وفي حضارة الإسلام خصوصاً، وشارك في هذه المحاولة العادلة بعض المفكرين الغربيين أمثال رودنسون وفانز فانون وسوسير وروبرت فيسك، وغيرهم، إلا أن الحالة المسيطرة والتي تلقّت الدعم من الإعلام والحكومات في ذلك الوقت، تبنّت النظرية الاستشراقية التقليدية، وتمّ تعميم هذه النظرية على أشكال الفن والأدب والدراما والسينما وحتّى الرسوم المتحركة، وفي كثير من الدول الغربية وصلت إلى المناهج الدراسية الأساسية والأكاديمية.

مع مرور الزمن وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وحملات التوعية التي تبناها الكثير من المفكرين الشرقيين الذين وجدوا صدىً لمحاولاتهم في الغرب، برز التيار الذي يحارب الاستشراق بشكل أكثر وضوحاً، وصارت نظريات الاستشراق القديمة تشكل تياراً شعبوياً ويمنياً في الغرب، تتبناه بعض النخب وتتجنبه أخرى، دون أن ينتصر أو أن يسقط، لكنّه تلقى صفعات عديدة بدأت تثير حوله ضجيجاً حقيقاً.

وأمام الخشية من سقوط الاستشراق الذي كان يمثل مصلحة نخبة اقتصادية وسياسية لا بأس بها في الغرب، ازدادت عدائية من يتبنون هذه النظرية تجاه الشرق، وازدادت محاولات العولمة والتشويه الحضاري لكل ما ليس غربياً بالاعتماد على نفس الوسائل التي فضحت جزء من نظرية الاستشراق (وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها) وصار الاعتماد على الشعبوية في انتشار أفكار المستشرقين هو الخيار الأمثل لتلك النظرية مع المحاولات الجادة لدعمها أكاديمياً بين فترة وأخرى.

انتقل دعاة التيار الاستشراقي من حالة العداء والتشويه إلى إعلان الحرب على الشرق المتخلف بعد أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001، والتي استعملت فيها دعاية المستشرقين بوضوح عن التخلف التي تعاني منه تلك المناطق الغنية، والتي يجب أن يتم السيطرة عليها من قبل الغرب بالقوة، حتى لا يؤدي هذا التخلف لمزيد من الإرهاب، واستخدم الرئيس الأمريكي عبارة الحرب الصليبية ليعيد التركيز على الإسلام كمستهدف أساسي من هذه الحرب، التي تسعى إلى فرض القيم الغربية وعولمة الشرق بالقوة.

لم يتوقف الأمر عند حربي العراق وأفغانستان، وإنما كانت تلك الحروب هي إعلان الصدام من جديد بين الغرب والشرق، ثمّ امتدت الحرب فيما بعد لجميع الميادين السياسية والإعلامية والاجتماعية بشكل أكثر وضوحاً وعنفاً، وازدادت حملات ازدراء الأديان، والسخرية من الإسلام وحرق المصحف و افتعال الأزمات الداخلية في معظم بلدان المشرق، ونشر الفوضى، وترسيخ حالات الاقتتال الداخلي، واستغلال الربيع العربي لقهر الشعوب العربية عبر دعم أنظمة الاستبداد في المنطقة والكثير الكثير من أدوات العنف الأخرى التي تمّت ممارستها بطغيان كبير تجاه الشرق بعد استشعار خطر الوعي العالمي بحضارته، والوعي العالمي لكشف زيف نظريات الاستشراق وخطورة أن يجد الشرق الفرصة للتعبير عن نفسه بعيداً عن تلك النظريات الاستشراقية بما يجعله رائد تجربة حضارية جديدة لا تناسب النظرية الغربية وأبعادها الاقتصادية النفعية الاستغلالية النخبوية …

لقد كان الاستشراق المحطة الأبرز في حالة الصراع بين الشرق والغرب، تلك الحالة التي ولّدها الغرب منذ أن بدأت الفتوحات الإسلامية تجاه الغرب، … ولأن الغرب لم يمتلك حضارة يستطيع فيها مواجهة الحضارة الإسلامية دون قتال، اختار بشكل دائم التعبير عن نفسه بطريقة عنيفة، بدءاً من الحملات الصليبية ومروراً بمحاكم التفتيش في الأندلس والاستشراق في عصور التنوير … وصولاً إلى العولمة الثقافية والاتهام بالإرهاب والحرب القيمية والأخلاقية في مجتمعات ما بعد الحداثة الثالثة، …

إن الحركات الاجتماعية الشاذة للمثليين والتيارات النسوية تمثلان أحد الأبعاد المهمة لهذه الحرب، والتي تريد أن ترسم صورة أخرى للشرق الذي لا يقبل الاختلاف والحرية عبر استهدافه بحركات شاذة يعلم الغرب أنها ستلقى مواجهات عنيفة في الشرق، ولكنها ستؤدي الغرض دعائياً في استمرار وسم الشرق بالتخلف.

وإن التمسك بالقيم والدين والأخلاق ومركزية الأسرة والعلاقات الاجتماعية المحيطة بها كأحد أهم مميزات الحضارة الشرقية، هي إحدى أدوات المواجهة القوية في وجه حرب الغرب ونظرياته العدائية تجاه الشرق

إن المقاومة التي انتجها الشرق، وما زال، والتقدّم الذي بدأت الحضارة المشرقية عموماً بإنتاجه، وانتشار الإسلام بشكل أكبر في المجتمعات الغربية كأبرز ما يميز الشرق وحضارته، وانكشاف زيف الدعوة الاستشراقية يوماً بعد يوم، جعل الغرب أكثر عداوة وأكثر عنفاً في التعامل مع الشرق، كما جعلته أكثر إصراراً على تبني النظرة الاستشراقية التقليدية، ونجاح اليمين واليمين المتطرف في الوصول إلى حكم عدد كبير من البلدان الغربية هو إحدى المؤشرات التي تخبرنا بمدى اتساع رقعة المواجهة بين الشرق والغرب، لذلك علينا أن نكون مستعدين على الصعيد الفكري والاجتماعي لمواجهة موجات عنيفة أخرى من العولمة ستكون مدعومة بشكل كبير بالمال والإعلام والذكاء الاصطناعي، وستستهدف بنية المجتمعات الشرقية وتؤكد تبعيتها للغرب عبر تسليط الضوء على كل ما هو براق في الغرب، وكل ما هو سيء في الشرق، وتجاهل كل ما لا يخدم التجربة، بغية صناعة الفتنة والانبهار مرّة أخرى لدى الأجيال الجديدة التي تبدو وكأنها أكثر تحرراً من الأجيال السابقة، وفي ذات الوقت أكثر عرضة للانصياع لأنها أجيال متعلقة بمنتجات الحداثة والإعلام.

لذلك علينا أن نُعدّ أنفسنا في ميادين المواجهة إعلامياً ومجتمعياً وتوعوياً وأكاديمياً واقتصادياً من أجل حماية مجتمعاتنا من (الغزو الثقافي والفكري) والحرب الكبرى القادمة، وهذه المصطلحات الأخيرة التي تبدو وكأنها في سياق نظرية المؤامرة هي الأكثر مصداقية وحقيقةً في المرحلة القادمة، وإن تعريفها كمصطلحات مبتذلة هو جزء من الدعاية الغربية التي علينا تجنّبها.

إن الحداثة وجميع منتجاتها في السياقات الاجتماعية والاقتصادية تخدم فكرة الاستشراق، وتخدم قوة العولمة الغربية، لذلك علينا أن نبدأ بإنتاج مفاهيم ونظريات تنتمي لفهمنا للعالم لا للصياغة الحداثية التي تسيطر عليه، وهذا الفهم ينطلق من إعادة تعريفنا لكثير مما حولنا بعيداً عن التعريف الذي نقلته إلينا الحضارة الغربية التي تريد إخضاع العالم لرؤيتها.

 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط