جاد الحق
كثيرًا ما نسمع تعليقات تقلل من شأن التفاعل المجتمعي الشعبي مع قضايا مهمة، الذي غالبًا ما يُترجم باعتصامات أو مظاهرات أو حملات مقاطعة أو حملات إعلامية غايتها التعبير عن الرأي، وبذل الوسع في نصرة قضية ما.
ويتردد السؤال: هل ما سبق ينصر القدس والأقصى أو سورية أو بورما أو…؟!
أليس الأفضل تجهيز الجيوش، وتسليح الشعوب، وفتح الحدود؟!
اقرأ أيضاً: قضية القدس بعد 73 عامًا على الاحتلال الصهيوني
لنجيب عن هذا السؤال بسؤال: هل الشعوب العربية والإسلامية تملك من الحرية واستقلالية القرار ما يمكنها من فعل الأكثر لكنها لم تفعله؟!
كمية القهر المفروض، والتشويش المقصود الممارس على الشعوب العربية والمسلمة، مع تغول الأنظمة الوظيفية وعنفها وسيطرتها الحديدية، وخضوعها لمنظومة دولية أقوى وأوسع تأخذ صفة المراقبة والتوجيه والتقييم، تجعل تحركات البعض من الشعوب مهما كانت بسيطة، إلا أنها انتصارات كبرى في ميادين الوعي والسياسة والتأثير.
الربيع العربي أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الأنظمة العربية الوظيفية، ومنافسيها الإقليميين، جميعهم يتحركون ضمن هامش محدود رسمه وصانه لاعبون كبار، ومؤثرون ثقال، قوتهم العسكرية والجيوسياسية هي من صدّرتهم لرسم الحدود، وضبط القوانين، ومراقبة اللعبة.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا
ومع ذلك تحاول كل فينة وأخرى فئات متنورة من الشعوب المقهورة إحداث نقب ولو صغير بسد العبودية، يدخل منه الضوء، ويمكّن المسجونين خلفه من استراق النظر للفضاء الفسيح، على أمل أن يكون هذا الثقب مشجعًا يومًا ما ونواة لهدم كامل السد، وخروج الشعوب المأسورة للحرية والنماء.
ضع معي مفردات المعادلة التالية وتفكر بنتيجتها:
أنظمة سياسية ما بين وكلاء لقوى احتلال أجنبي خارجي، أو متمردين صغار لا يزالون بعصر الضعف، مع نظام دولي متشعب التمددات يسيطر بمؤسساته وإعلامه وثقافته الغالبة على كل شيء، مع شعوب أنهكتها الحروب والمجاعات والأمراض المجتمعية المختلفة، مع أجهزة مخابرات وجيوش تمارس التنكيل بكل مارق، ويشرعن إجرامهم من خلفهم جيوش أخرى من قضاة ورجال الدين وفنانين ورياضيين وصحفيين وكتاب ومنتفعين، ومع ذلك يخرج فتية مؤمنين بقضيتهم، فخورين بهويتهم، يبذلون ما بوسعهم بل وأكثر أحيانًا في سبيل ألَّا يموت الحق، ولا تضيع الحقيقة، ولا يتوقف قلب الأمة عن ضخ الدم في جسدها الواهن.
هذه الهبات الشعبية التي قد نراها غير مؤثرة يكفيها أنها تعطينا دفعًا للأمام ولو يسيرًا بأن الأمة لن تموت، ويكفيها أنها تنقب وتخدش بأسوار الأسر ما استطاعت على أمل أن تهدم السور يومًا بتراكم النقوب والخدوش فيه، وإن كان الجهد المبذول لا يرقى للمطلوب، فهو لا شك طريق أساسي لا بد من سلوكه للوصول للمطلوب، وإن من قرّب لحظة النصر العسكري بصوته في المظاهرات، ولافتته في الوقفات، ومقاطعته للمنتجات، ومنشوراته في وسائل التواصل، لهو أفضل ممَّن انتظرها بسكون، أو كان أقصى ما يستطيعه الدعاء بقربها في صلواته، والطرف الأول الذي تحرك بما استطاع ضمن ما هو متاح، لهو الأوفر حظًا في صنع لحظة النصر العسكري الفارق والمشاركة بها حين تأتي من الطرف الثاني المستسلم الساكن.
كل ما سبق يفيدنا في فهم العمل بالاستطاعة وبذل الوسع الذي أمر به الإسلام في إقامة شرعه سواء بالعبادات الفردية، أو الواجبات المجتمعية، أو التطبيقات السياسية.
فتغيير المنكر باليد أعلى من التغيير باللسان، وتغييره باللسان أعلى من تغييره بالقلب، ولا يقبل الأدنى ما لم يستطع الأعلى، ولا عفو أو عذر عن التقصير بالواجب الفردي المستطاع حتى لو حصل التخاذل العام عن الواجب الأعلى سواء مجتمعيا كان أو سلطويًا.
وأعدوا ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، تختلف تمامًا عن وأعدوا فقط، فالأولى أمر بالأخذ بجميع الأسباب مهما صغرت ولآخر مدى، أما الثانية فأي إعدادٍ كافٍ.
لو أن كلمة التمرد والرفض لا تنصر مظلومًا، ولا تغيظ ظالمًا، لما نزلت داخلية (بن علي) للشوارع لقتل المحتجين، ولما دهم بلطجية (مبارك) متظاهري التحرير، ولما قاتلت (كتائب القذافي) ثوار ليبيا حتى تفنى، ولما هاجمت قطعان شبيحة (بشار) جموع أكارم سورية السلميين الأحرار، ولما رأينا اليوم شراذم (الصهاينة) المدججين المدرعين تنازل جموع المقدسيين العزل، بل ولما تصاف الفريقان يوم بدر لتحكم بينهم السيوف والرماح.
كل ذلك يا عزيزي كان مبدؤه الكلمة والموقف، فلا تستهن بهما، واعلم أنه حتى صواريخ المقاومة الفلسطينية التي نراها اليوم تدك الصهاينة المحتلين كانت بداياتها كلمات متمردة، ومواقف رافضة، تجمعت وتآزرت، واستغلظت، حتى استوت على سوقها ثم انطلقت ترجم الغاصبين.