منيرة بالوش |
يقضي العامل “أحمد 33 عامًا” نهاره في المنطقة الصناعية بمدينة إدلب، ليحصل على 2200 ليرة سورية، أي أقل من دولار ونصف، وهي أجرته في اليوم الواحد! إذ لا تكاد تكفيه ثمن خبز لأطفاله الأربعة بعد نزوحه من ريف إدلب الجنوبي، ولعدم وجود فرص عمل قبِل (أحمد) بهذه الفرصة لو كان الأجر زهيدًا.
في حين يحصل باقي العمال على أجرة تتراوح بين 1500 ليرة إلى 3000 حسب خبرتهم وساعات العمل التي يقضونها، أي بمعدل 1،5 دولار إلى 2 دولار، وتعادل شهريًا من 30 إلى 50 دولار شهريًا، وهو مبلغ لا يكفي حاجات الشخص من طعام وغيره، فالأسرة الواحدة تحتاج أكثر من 200 دولار شهريًا بالحد الأدنى لتأمن متطلباتها الضرورية فقط.
يلجأ الشبان إلى سوق العمل الخاص، لتأمين فرصة عمل لهم، ومنهم من يقصد المطاعم والأفران ومحطات الوقود وغسيل السيارات وشركات الشحن (العتالة)، وأعمال البناء والمقالع الحجرية، وغيرها من المهن الشاقة التي تستنزف طاقة العامل دون إعطاء حقه في أجرة تتناسب مع طبيعة العمل.
(أبو عمر الحمصي) يخرج كل يوم من إدلب إلى (معرتمصرين)؛ للعمل في ورشة بناء، حيث يتولى (طينة) الجدران والأسقف، مقابل 2500 ليرة لليوم الواحد، ويتقاسم مع صديقه أجرة الطريق، ليبقى معه ثمن وجبة طعام لعائلته، وقد حفرت بقايا الإسمنت والرمل على يديه جروحًا لا يستطيع شراء دواء لها، فخبز أطفاله أهم من جروح يديه، كما أخبرنا.
وتعدُّ مسألة حقوق العمال الضائعة في مدينة إدلب والشمال السوري عمومًا، ليست بالحديثة أو الطارئة، إنما هي مشكلة قديمة يعاني العمال فيها استغلالاً كبيرًا من قبل أرباب العمل في غياب تام لنقابة أو جهة يلجؤون إليها تحصِّل لهم حقوقهم.
حقوق العمال الضائعة يزيدها سوءًا تدهور قيمة الليرة السورية أمام الدولار، حيث وصل سعر الصرف مؤخرًا إلى1٩٢٥ ليرة في مناطق المعارضة ليعود وينخفض إلى دون 1700 ليرة، وهذا أعلى مستوى قياسي يصل إليه الدولار لأول مرة منذ هبوط الليرة السورية.
وبارتفاع سعر صرف الدولار ترتفع (أسعار المواد الغذائية، والخضار، واللحوم، والخبز، والملابس، وأجرة المنزل، وفواتير الكهرباء، والإنترنت، وصهاريج المياه..) باستثناء أجرة (العامل ) تبقى كما هي، إذ لا تتجاوز في بعض الأعمال “دولارًا واحدًا”
لا بديل لعمل (أحمد) كما يقول، فقلة فرص العمل تجبره على قبول أي أجر يفرضه صاحب العمل الذي يمكنه ببساطة الاستغناء عه إذا طلب أجرة أكثر، مؤكدًا استغلال أصحاب العمل لهذه النقطة وتحكمهم بالعمال.
صحيفة (حبر) التقت الخبير الاقتصادي (محمد سندة) للحديث عن مفارقة ارتفاع كل الأسعار عدا أجرة العامل الذي مايزال حقه ضائعًا، حيث قال: “تكمن المشكلة في توقف عجلة الإنتاج عن الدوران في سورية بشكل عام جراء الحرب الدائرة؛ لأن المعامل وحركة الصناعة والتجارة تستقطب عمالة كبيرة، ولأن المنطقة المحررة فقيرة بالمعامل والمصانع أصبحت العمالة غير مطلوبة، فزاد العرض أي (القوة العاملة) على حساب الطلب الذي هو أصحاب المصالح ورؤوس الأموال، وبالتالي هناك تضخم كبير في اليد العاملة مع قلة فرص العمل المتاحة.”
وبيَّن الأستاذ (سندة) أسبابًا عدة لعدم التوافق بين الأسعار ومعدل الأجور للعمال، بقوله: “أولها هروب رأس المال من مناطق النزاع والحروب إلى مناطق أكثر أمنًا توفر له حماية وفرص تجارية، وهذا أدى إلى جعل مدينة إدلب خاصة، والشمال السوري عامة، منطقة شبه خالية من المنشآت الصناعية التي تؤمِّن فرص عمل لأعداد كبيرة من الشبان، وذلك أجبر (القوة العاملة) على الرضوخ لشروط أرباب العمل دون مساومة على أجرهم، كما أثر تقلب سعر الصرف المستمر وتدهور الليرة السورية، على حركة الإنتاج وارتفاع الأسعار؛ بسبب استيراد التجار للمواد الأولية بالدولار وطرحها بالسوق ليواجه مشكلة سعر الصرف، وهنا يتم تعويض الخسارة على حساب العمالة التي تبقى أجرتها منخفضة، في حين ترتفع أسعار السلع والمواد الأخرى.”
هذا ما يؤكده (أبو محمد) وهو صاحب ورشة صيانة سيارات في المنطقة الصناعية، حيث إنه يستورد المواد وقطع التصليح بالدولار، ويعوض خسارته برفع أجرة التصليح والصيانة، أما أجرة العمال في ورشته فهي مستقرة؛ لأنه حسب قوله: “بدل العامل يوجد مئة يعملون بالأجرة نفسها” وبرر ذلك بشح العمل والإنتاج، وضعف الربح بسبب الغلاء الذي يشمل أجرة محاله أيضًا.
هل لتقلص مساحة المحرر أثر على سوق العمل؟
يجيب الخبير الاقتصادي (محمد سندة) بقوله: “إن سيطرة النظام على مساحات واسعة من الأراضي المحررة له دور أيضًا في تراجع فرص العمل وتعميق جراح العمال، وذلك لفقدان مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية التي تُزرع في مواسم مختلفة وتوفر فرص عمل لشريحة كبيرة من العمال، فضلًا عن دورها الاقتصادي، وهذه المشكلة أدت إلى تفاقم المشكلة الأساسية، وهي نزوح العمال نتيجة احتلال أراضيهم إلى البقعة المتبقية في الشمال السوري، فصار عندنا مساحة قليلة وزيادة أكبر في سوق العمالة المُتخم أصلًا، وسط شبه انعدام للمشاريع التي تولد فرص العمل.”
ما دور منظمات المجتمع المدني في تأمين فرص عمل للعمال؟
تستقطب المنظمات الإنسانية عددًا محدودًا للغاية من العمالة، وتقتصر على فئة معينة من الشباب تتوفر فيهم مؤهلات معينة من الشهادات العلمية وسنوات الخبرة، وأحيانًا التزكية والواسطة، وهذا ما أكده عدد من الشبان الذين التقيناهم، بعد عدة محاولات للعمل بالمنظمات باءت بالفشل، فتستحوذ هذه الشريحة على فرص العمل على حساب باقي الفئات الأخرى من المجتمع التي تشكل غالبية واسعة لم يتابعوا تعليمهم لعدة ظروف، أهمها الحرب والنزوح والتهجير من مناطقهم على مدار تسع سنوات، ليصبح سوق العمل الخاص والمهن الأخرى ملاذهم الوحيد لتأمين لقمة عيشهم.
كما زادت هذه الأوضاع صعوبة على الأهالي في الشمال المحرر بعد توقف عدد من المساعدات الإنسانية، وانقطاع دعم المانحين لأغلب المنظمات التي كانت تساعد إلى حد ما كثيرًا من العائلات الفقيرة.
وكذلك يعيش المدنيون في مناطق النظام حالة من الاستياء الشعبي بسبب الغلاء الفاحش والفقر، حيث يقع 83% من السوريين تحت خط الفقر، بحسب تقرير للأمم المتحدة لعام 2019، و بتقرير آخر للأمم المتحدة 2018 تذيلت سورية قائمة البلدان في العالم حسب دخل الفرد من الناتج المحلي والاجتماعي بالدولار سنويًا.
كيف يعيش السوريون في ظل هذا الخناق الاقتصادي؟
يحتال السوريون على واقعهم المرير بإقصاء كثير من حاجاتهم والإبقاء على الضرورات فقط، (لقمة العيش) كما يعتمد قسم كبير منهم على الحوالات المالية من دول الخارج، إذ بلغ صافي التحويلات المالية إلى الداخل السوري في عام 2017 نحو ١٦٤٢ مليار ليرة سورية، بحسب المكتب المركزي للإحصاء.
حلول رهينة الجهات المسؤولة
تبقى الحلول رهينةً بيد الجهات المسؤولة التي تغض الطرف عن هموم ومشاكل المدنيين، في حين تفرض الضرائب والإتاوات على جميع الخدمات التي تقدمها،
ومن ضمن الحلول أورد الأستاذ (سندة) بعض النقاط التي تساعد في إيجاد فرص عمل تستوعب الطاقة الفائضة من اليد العاملة، فالموضوع حسب قوله: “يحتاج حشدَ الإمكانات المحلية واستغلالها بشكل جيد، فعلى سبيل المثال بلغ معدل البطالة في الشمال السوري أكثر من 80%، وتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة لاستغلال كنز العمالة، وتوفير بيئة مشجعة من خلال تأمين الحماية لأصحاب الاستثمارات، ووضع نظام ضريبي بعيدًا عن الإتاوات، وتشجيع التصدير، وكل ذلك يقع على عاتق الحكومة المؤقتة، وفي هذه الحالة سوف تقل الهوة بين عرض العمالة وطلبها، وهذا سيؤدي إلى تحسن الأجور، ويبقى الأهم هو تعافي الليرة السورية، وهذا يحتاج إسقاطَ النظام، واستعادة الدولة، وبناء الاقتصاد الوطني، والتوزيع العادل للثروة بعيدًا عن المافيات المقربة من حكومة الأسد وعصابته.”