بقلم أنس إبراهيم
حصار حلب هو نتيجة طبيعية لتضافر مجموعة من الأفعال وردود الأفعال مجتمعة، يشترك فيها جميع أطراف العمل الثوري، هذه النتيجة الطبيعية لم تتأتَّ بسبب طبيعة وكينونة الثورة من حيث مبدئها وانطلاقها على الرغم من افتقارها لمقوّمات التصدّي اللازمة لمقارعة جلادها، كما أنها لم تتأتَّ بسبب طبيعة وكينونة النظام النصيري الطائفي الغادر الذي استقوى بقوى العالم أجمع عسكرياً وسياسياً ولوجستياً وإعلامياً، لا بل استقوى أيضاً بصمت حكّام الدول العربية والإسلامية رضى بما يصنع، الذي يعتبر تأشيرة تفويضٍ منهم له باعتبارهم يخرجون والنظام من مشكاةٍ واحدة لوليّ نعمتهم الأكبر أمريكا، وصمت شعوبها التي تتباكى علينا عجزاً وعطفاً من فراغ فكريّ مسطّح.
أمّا الأفعال التي ساهمت في تليين وانحناء القوس العسكري والتفافه حول مدينة حلب فلا بدّ أنّ هناك من يقف وراءها بشكل مباشر، وهم:
- القادة العسكريون:
أفرزت ثورة الشام الغث والثمين من المجتمع السوري، وأبرزتهم كقادةٍ مسؤولين فيها، وبينما كان الصادقون منهم يزودون عن الأمة ويدافعون عنها وهم يخوضون أشرس المعارك مع النظام النصيري وهو في أوج قوّته، بدأ الآخرون في تكوين قوّة عسكرية تصدّروا من خلالها في كافة المحافل المحلية والدولية وهم يروّجون للعالم أنهم حملة رسالة الثوار الأوائل، وأنهم هم الذين يحمون بيضة الثورة من سرّاقها.
هؤلاء القادة المشهورون محلياً وإعلامياً أصبح لديهم شبكة من العلاقات الدولية، فكان من ثمرتها أن رهنوا أنفسهم لهم لقاء دعم مادّي مفتوح ومشروط، كفتح جبهات محدّدة مع النظام لا طائل منها في التخطيط العسكري في شيء، وإيقاف جبهات مصيرية من شأنها إبطال استراتيجيات عسكرية للنظام على المنظور البعيد.
وفي أثناء هذا وذاك ظهرت ثلة من القادة العسكريين خاضوا عدّة معارك في سبيل النهب السلب وتوسيع رقعة نفوذهم لحفظ هيبة سلطانهم في عيون المدنيين الذين لاقوا منهم استئساداً عظيماً قلّ نظيره، بينما جَبُنُوا وتخلوا عن مواجهة النظام في المناطق التي لا غنائم فيها ولا نفع منها.
ومن صفاتهم التي كانوا يتميّزون فيها، هو افتقارهم إلى العلم والتخطيط الاستراتيجي والحنكة العسكرية إلا من حنكة قانون الطوارئ على المدنيين فقد برعوا في ذلك.
- العلماء:
لقد تسلّم العلماء قيادة المجتمع المدني بصفتهم الرائدة، وهم في الوقت نفسه تسلموا حراسة أبواب القادة العسكريين الذين لهم السطوة العظمى عليهم، فراحوا يشغلون أماكن وظيفية لديهم متناسين مهمّة العلماء الربانيين في اصطفافهم على قلب رجل واحد، وعملهم على توحيد كافة الفصائل المتشرذمة، وحملهم عنوة على إنشاء كيانٍ عسكريّ منظّم يجمع أهل السنة كلهم تحت رايةٍ تناهض النظام في عقر داره.
فقد آلت بهم وظائفهم تلك إلى زيادة الشرخ والهوة بين المسميات الفصائلية على أرض الواقع وهم يتفرجون بل ويتسلمون دروعاً وأوسمة على وظائفهم العلية.
لم يكن لديهم أدنى بعد نظر في أن يتنازلوا عن تلك التسميات والمدارس التي ينتمون إليها، ويضعوا أيديهم بأيدي إخوانهم ليتفادوا الحصار الذي أصبح حقيقة.
- المنظمات:
فقد قامت على استقطاب كل الشباب المثقّف وأغرتهم بإغداق الدولارات عليهم سعياً من الجهة المموّلة إلى إحداث فراغ كبير في الجيش السوري الحر بحيث لا يسدّه إلا الفئة الجاهلة والمتسلطة والجائعة مادياً.
حيث بات يلهث معظم الشباب وراء منافسةٍ دولارية للحصول على أكبر قيمة منها، هذا الذي جعلهم يخمدون جذوة فكرهم في شؤون الثورة، وربما اقتصر فكرهم على تقديم الطعام والشراب الذي نذروا أنفسهم له طيلة الوقت قبل الحصار إلى أن تحقق.
أمّا ردود الأفعال فهي من عوام الناس المدنيين والمجتمع كافة أو من الصفوف العسكرية في الدرجة الثانية أو الثالثة، فقد كانت ردة فعل سلبية في كل أوجه تحركها على المستوى الفكري والاجتماعي أو حتى على صعيد تحليلاتها العسكرية والسياسية، فلم يفكر قادات الكتائب في مصير ثورتهم التي باتت في قبضة بعض المتحكّمين بالمال من الخارج إلى أين ستؤول؟ كما أنَّ عامة الناس كانوا يتداولون في أحاديثهم اليومية كل التفاصيل التي تجري في المعارك وأسباب تراجعها بدقة متناهية، فهم يعرفون تماماً العوائق التي تحول دون تقدم المجاهدين في المعارك من حيث أسباب التخطيط لها لا من حيث كفايتها العتادية، ومع ذلك يظل هذا المجتمع قابعاً تحت ظلّ جرفٍ هائل من الخرافات والتقاليد العمياء ويأبى أن يثور على من اكتشف فيهم العلة الحقيقة في أسباب حصارنا؛ لأنه كالعادة يريد أن يعطيهم فرصة ثمينة من عمره حتى يجربوا فشلهم عليه، فهم لم يستطيعوا أن يتخلصوا من عادة التقديس فلا بد أن يقدّسوا جهة ما بدلاً من أن يكونوا رقيباً ومحاسباً عليهم في سيرهم بمصير الأمة إلى المجهول، فكانوا يدافعون عنهم ويثورون على كل من ينتقدهم ويبصّرهم بأحداث المستقبل.