لا يمكن لأحد، وتحديدا من الزيارة الأولى، إلقاء نظرته الأولى على القرية التي تقع بين سفحين جبليين، المتميزة بطبيعتها الخلابة، إلا وينبهر من جمالها، حتى يخيل إليه كأنَّها لوحة فنية مرسومة بريشة فنان بإتقان، حينها يستشعر الناظر عظمة إبداع الخالق عزَّ وجلَّ، إنَّها قرية مسالمة هادئة مطمئن أهلها.
ولكن ما إن يتعمق المتأمل ولو قليلا، ويدخل إلى طيات تفاصيل أهلها وحاراتها، يجد ما ينغص على الساكنين ذلك الجمال الفتَّان.
إنَّها قرية الدُّريَّة التي تقع في أقصى ريف إدلب الغربي، وتحديدا على الحدود السورية التركية، إنَّها بعيدة عن صخب الحرب وهدير طائرات الأسد وشريكته روسيا والقصف بمختلف أنواعه.
القتل وبشكل تعسفي إن صح التعبير قد لحق معظم الأراضي السورية، إلا أنَّه لم يستثنها هي الأخرى، وقد وصل إليها، لكن بطرق مختلفة.
قرية الدرية حالها ليس كأفضل حال من المناطق المحررة الواقعة في الداخل السوري، فالقتل قد وجد طريقه الخاص إليها بالرصاص العشوائي الذي يرميه حرس الحدود التركية، أو كما هو متداول بين الناس (الجندرما) متزعمين أنَّهم يقومون بإخافة المحاولين تجاوز شريط الحدود والدخول إلى الأراضي التركية عن طريق التهريب، وإبعادهم عنه ليصل الرصاص أو حتى طلقات الرشاشات الخفيفة والمتوسطة إلى داخل الأراضي السورية، ليتساقط بعدها على رؤوس قاطني القرية كالمطر، على حسب وصف (أحمد) صاحب محل تجاري يقع وسط القرية، والبالغ من العمر 32 عاما.
وأضاف (أبو عمر) 57 عاما من أصحاب الأراضي الزراعية في القرية أنَّه ومنذ أكتر من شهرين لم يقم بزيارة أرضه وإدارة شؤونها بعدما أقدمت الجندرما التركية على دخول أرضه أثناء حراثته لها عصر أحد الأيام، فقاموا بإهانته، وتوجيه أبشع الألفاظ، وضربه دون سابق إنذار، ومصادرة دراجته النارية، وأخذ كل ما لديه من نقود بذريعة أنَّه يقوم بتهريب الناس عن طريق أرضه، رغم أنَّه حاول جاهدا إقناعهم بعدم علاقته بالأمر من الأصل، وأنَّه متعيش من زراعة أرضه التي تعتبر مصدر رزقه الوحيد، لكن دون جدوى.
أمَّا (أم وسيم) فكان لها وضعها الخاص بعد أن فقدت فلذه كبدها ابنها خالد الذي لم يتجاوز من العمر 16 ربيعا، وكل ذنبه أنَّه كان يقوم بالعمل في أرض أحد سكان القرية قبل أن تستقر عدة رصاصات بشكل مباشر في جسده دون سابق إنذار، لتكتمل فاجعة الأم وذويها بأنَّهم لم يستطيعوا سحب جثة ابنهم إلا بعد ثلاثة أيام تحت جنح الظلام ليجدوها متفسخة.
وعند سؤالنا (أبو حسام) مدير المجلس المحلي للقرية حول استهداف السوريين ضمن أراضيهم بالرشقات النارية والتجاوزات المعلنة من قبل الجندرما التركية، وحول موضوع التحذيرات من قبل الحكومة التركية إن وُجِد، أجابنا: “لم يكن هنالك أي تحذيرات أو تواصلات متعلقة بهذا الأمر” وأضاف: ” أعداد الشهداء والجرحى قد تجاوز 20 مدنيا ولاسيما في الأسابيع الأخيرة، ولم يكن آخرهم الجنين في بطن أمه وأمه حينما اخترقت الرصاصة جسد الأم، وحاولت الفرق الطبية إسعافهما، لكن نزيف الأم الشديد حال دون ذلك، ففارقت الحياة وجنينها.
إنَّ ما تقوم به الجندرما التركية هو تجاوز علني لكافة القوانين والأعراف الدولية المتعلقة بحدود الدول، ومن حق الحكومة التركية أن تتعامل بما هو مناسب لمن يخطو داخل الشريط الحدودي ويضع قدمه الأولى ضمن أراضيها، ومن حقها أن تصنفه وتتعامل معه بما شاءت، أما أن يصل الأمر إلى استهداف المدنيين القاطنين ضمن قريتهم البعيدة عن الشريط الحدودي مسافة ما يزيد عن 2 كم بالرصاص الحي، بالإضافة إلى استهداف المزارعين ضمن أراضيهم المشروعة أثناء عملهم بها، واقتطاع أجزاء من الأراضي الزراعية وضمها للأراضي التركية، فهو خرق واضح وصارخ وتعدٍّ على الأراضي السورية وضرر بالقاطنين، وممَّا يزيد الأمر تعقيدا هو استهداف الطريق الوحيد الواصل مع القرية، واستهداف السيارات المدنية بالرشاشات المتوسطة، ممَّا يؤدي أحيانا إلى إعاقة الحركة التجارية والطبية للمدينة، ووقوع عدد من الشهداء والمصابين”
وعند ذهابنا ولقائنا بالدكتور (أحمد) مدير مشفى الرحمة في مدينة دركوش قال: “إنَّ أغلب الإصابات حالاتها خطرة، وعدد من المصابين لم تسنح لهم الفرصة بالوصول إلى المشفى في الوقت المناسب بسبب خطورة حالتهم فقضوا نحبهم، وأعداد المصابين والقتلى ماتزال بتزايد مستمر”
شكاوى كثيرة، وغضب ممتزج مع الألم، وهموم وآهات ماتزال تخرج من حناجر أهالي تلك القرية، فهل يا ترى ستصل إلى أولي الأمر وتُحل تلك العقبة؟ أم أنَّ المسألة مثلها مثل آلاف التجاوزات الأخرى بحق الشعب السوري، لا يهتم بها أحد فتبقى حبرا على ورق وسط شجب وإنكار لا يسمن ولا يغني من جوع؟!