لماذا تختنِقُ البحةُ خلفَ الحنجرةِ وتذبحُ الروحُ من الوريدِ إلى الوريدِ؟ لماذا تتحايلُ في رسمِ بعضِ الأصواتِ والرسائل على صفحات الوهم؟ لماذا لا تخرجُ مدَّويةً لتخبرَ كلَّ من زرع بكلامه أوهاماً لجناتِ عدنٍ أنه أزال حجرَ الارتكازِ من سدِ مأرب فهوى جِدارُ الروحِ بدلَ أن يُقيمهُ بمسؤوليةِ الكلمة؟ لماذا لا نواجههم لنخبرهم كم كانت مساحاتُ ما جرفَ السيلُ في طريقهِ وكم تركَ من أعجازِ نخلٍ خاوية؟ لماذا لا نجلدهم مِراراً وتكراراً وننهي تلك العواصف المتلاطمة في لُجَجِ الإدانةِ والتَّظلم، ثمَّ ليمضي كلٌّ في طريقهِ لا له ولا عليه؟
يتدفقُ سيلُ النظراتِ الحائرةِ عن نصٍّ كتبتُهُ في ذكرى مولدي على جدار الفيس بوك لأُخبِرَ أصدقائي بكل بساطةٍ أنهم أجملُ ما حصدت في ثلاثةِ عقودٍ غابرة، جملةٌ صغيرةٌ كتبتُها على صفحةِ أحدِ مواقعِ الميديا غرست أنيابها في نفسِ إنسانٍ أغلى من الحياة نفسها، لم أكن أعرف أنه سينفجِر جدولُ الحنين ببضع كلماتٍ كُتِبتْ على جدارٍ من الحزن والوفاء ..
ابنةُ أخٍ مشتاقةٌ هائمةٌ تحملُ طيفَ عمٍّ يُلازمُ أنفاسَ كبرياءِ الماضي الموروثِ منه، لم تهجره يوماً ولم تجفو، لكن هجرتها القُوةُ أمام العادات، دماءُ الشهداءِ تسيحُ في شرايينها لتضُمه إلى أوسعِ واحةٍ في أقربِ لقيا، ولكن هيهات أن تُسعفها جُرأة، كان على الجميع أنْ يقرأَ رسالةً تحملُ ملامحه إلا هو، بحثت عن كل ما فيه منها، رسمته في أمواج كهرطيسية وبَثَتهُ في وجدانِ كل الخلائقِ وكانَ خارج الزمن وهو رجلُ الأزمان.
صديقتي الغائبة رفيقةَ ألعابِ الغُميضة ودُروبِ الحاراتِ الضيقة، كم رسمتْ أَناملي في صدركِ واحاتٍ في ظُلَمِ الكهفِ الذي اعتدنا أنْ نختبئ فيه، تعجزُ هذهِ الأناملُ اليومَ أن تُرسلَ لكِ أقلَ الحروفِ لتُخْبِركِ أكثرَ الأشواقِ العائمة في فضاءِ السهرِ المُزمِن خاصتنا في ذات ليل، ربما كان الليلُ الوحيدُ الذي لم نَشأ أنْ يَقصُر، همهماتُ أسرارٍ وفراشاتُ ربيعٍ مرتْ عليكِ ولم تعبثْ بجسدي الصغير، تترآى أمامها ولكن عبثاً تُحاولُ وِصالاً إلا من خلفِ مئةِ (تاغ).
رفيقي النحيل وتوأمَ الشغب، يُرفرفُ الصيفُ الوادعُ على تلالِ طفولة، ويُشيحُ بإيمانه ِعني، يخبرني أن سماءً عاشت ليالي السمرِ وضَفافَ قمرٍ تحِّنُ لجلسةِ صفاءٍ مع قريبكِ الخجولِ تَزرعُ في صحراءِ البعدِ فسيلة، ولا وسيلةَ إلا تلك الجدرانُ المشؤمة لتزيد الصيف ما ينوءُ بحمله أولو القوة.
هذا الزمنُ المظلومُ الذي سرقنا ساعته لنلصقها في جدار يومٍ ليسَ وقته، يشتكي هدر حقهِ في اتكاءٍ دونَ شكوى، يعيشُ معنا كلَ الأسفِ الذي مُنينا بهِ دونَ امتنانٍ أو عرفان، لعبنا دورَ اللصوص ِ لكن بغباء، أليسَ من حقهِ أن يُسرقَ ليُمِدَّ صحيفة ببعضِ الوُريقات البيضاء، لتُخضَّرَ بها يوماً كفةُ ميزان، ليُدَوَّنَ به ومن خلاله شذى بعض اللحظات، نعبثُ بِنا في غفلةٍ مِنا على ما لنا فينا وفيه، ونُوثِّقُ تاريخَ عملياتِ السطو الجليلةِ والدقيقةِ على كل الجُدرانِ لتكون شاهداً علينا أمام الديَّان.
ما مللتُ من خاطرٍ يُراودُ ذهني كلَ ليلةٍ أعترفُ فيهِ بجريمةِ حبكَ يا أخي، ما مللتُ ولن أمل، سأُدون تفاصيلَ عِشقي لكَ وشغفي بوسامتكَ، وكم كنتَ الخصمَ والحكمَ على باقي رجال الكون في نظري.
أُنَمِّقُ مخطوطي كلَ ليلةٍ في طقوسٍ أستحضرُ فيها جانَّ الذكرى والخيال لأتأكدَ هل أنتَ فيما مضى أنت، أم أن عارضاً يرسمُ صورةً ملائكيةً لكَ يا ملاك.
وبالطبعِ لمْ أستطعْ أن أُسلِّمَ المخطوطَ الذي تاهَ في رحلةِ التاريخِ قبلَ أن ترتقي دونَ أن ترمُقَهُ بنظرةٍ يَخِّرُ مغشياً عليه ممزقاً من الخشوعِ.
أما أنتَ يا أيُّها الشريكُ الحُلم، صديقُ الاهتماماتِ وصاحب الهِمَم، متى ستمتلكُ الجرأةَ لكي تُصَرِّحَ كما فعلها نيوتن عندما سقطتْ تفاحةُ الجنةِ معلنةً نهايةَ الفراغِ والبحثِ العبثي “وجدتها”؟ متى ستمتلكُ حصاناً جامحاً سبَّاقاً للخيرات، سريعاً في لمِّ شتاتِ الأرواحِ المتآلفة، ينتظر صفَّارةَ البدايةِ ولو بكلمةِ بوحِ مجنونة؟
ألمْ يقل مُعلمنا الأول صلوات ربي عليه على الملأ في مجلسِ أصحابهِ عندما سألوه من أحبُّ الناسِ إليه “عائشة” “عائش” يا حبيبي يا رسولي كم أنت عظيمٌ في حبكَ، كم أنت عظيمٌ في دروسكَ وكم نحن طلابٌ فاشلون!
إلى متى سنبقى نتسترُ خلفَ فضاءِ الوهمِ المفتَرضِ لنبوحَ لتلك الموجاتِ بكهرباء عِشقِنا، وذبذباتِ هيامنا المجنونة، وصرعِ الذكرى الذي لا يكُّفُ عن الاختلاج؟
ألن نبوحَ بالحبِ لنَلعنَ عهدَ الفراق، ونُعلنَ ساعةَ الوصَال التي قد لا تحبونا الحياة غيرها؟ ألن نَهْجُرَ دهرَ الهُجرانِ لنُعمِّرَ قلوباً ترتجي لمسةَ دفءٍ على رأس يُتمها؟ ألن نكتفي بالاختفاءِ خلفَ أصابعنا نُنَمقُ الأحرفَ ونأتَمِنُها علَّها تكونُ حارساً أميناً.
لا يَشي بمكنونِ فؤادِ من يَحرسه؟ ألمْ نكتفِ إلى هذا اليوم بأن نكونَ ملوكَ الأوقاتِ الضائعةِ وأسيادَ الفرصِ الهاربة؟!