نور المحمد |
سنوات تغلب عليها القهر والدموع، تجلس وحيدة تراقب طريق اللاعودة الذي سلكه فلذة كبدها، تلتفت يُمنة ويُسرة تنتظر مُبشراً برجوعه، وتسرد لطفله الصغير بعضاً من الذكريات التي ما زالت عالقة في ذهنها.
جاءها اليوم الموعود وخرج “عبد المنعم كعود” الشاب الثلاثيني صباح يوم العاشر من أغسطس ٢٠١٨ وبعد 6 سنوات قضاها في المعتقل دون تهمة وجهت إليه، منها ثلاث سنوات في سجن فلسطين وسنتان في سجن عدرا وباقي الأيام متنقلاً بين الأفرع تاركاً خلفه طفلاً لم يتم شهره الأول.
كانت لحظات اللقاء تحكي عودة يوسف ليعقوب، فعينا أمه السبعينية ابيّضت من حزنها وبكائها الشديدين عليه، أسند رأسه إلى كتفها ليُلقي بتعب وعتمة السجن، ونظر طويلاً في عيني أمه علها تنسيه ملامح وغلاظة سجانيه.
شارك عائلته خيمتهم التي تحكي مرارة وقسوة النزوح، فلا منزلاً بقي ولا رفاقًا ولا جيرانًا بعد سيطرة قوات النظام على قريته (قصر شاوي) في ريف حماة الشرقي منتصف تشرين الثاني من عام 2017, وما إن مكث بصحبة أهله وطفله أشهر قلال حتى لقي حتفه في قصف من قبل الطيران الروسي لسوق قرية (بينين) جنوبي إدلب بتاريخ ١٩ يونيو العام الجاري ليلقى حتفه مع أخيه بلال ذو 22 عامًا.
عادت (أم عبد المنعم) إلى حزنها بعد فرحة لم تدم طويلاً، تعود بذاكرتها الضعيفة لترسم أجمل ثلاثين يوماً أنستها ما ذاقت في نزوحها، وتلملم جراحًا لم تلتئم بعد.
أما ابنها الثالث (أحمد) الذي أصيب بشلل نصفي أُصيبت يده وقدمه اليمنى نتيجة وعكة صحية منذ سنوات، وبات عاجزاً عن تأمين قوت وعلاج أطفاله الأربعة المصابين بأمراض قصر النمو، وتبلغ تكلفة جرعة الطفل الواحد 8 آلاف ليرة شهرياً، ويعتصر قلبه ألماً على أمه وأخته العزباء الذين افترشوا الأرض ببعض من الأقمشة البالية و المهترئة التي تعيشان على صدقة من هنا وسكبة طعام من هناك، وتنتظر بين الحين والآخر إرسال ابنتها المغتربة القليل من المال لتسد بها القليل من جوعها واصفة واقعها بقولها: ” رغم كثرة الموت في بلدي إلا أنني أعيش من قلته.”
وقال (ريان الأحمد) مسؤول المجالس المحلية في ريف حماة الشرقي: “إن عدد العوائل التي نزحت من شرقي حماة خلال العملية العسكرية التي هجرت أكثر من 145ألف عائلة فقط من منطقة الحمرا شرقي حماة التي تضم قرابة 100 قرية من ضمنهم قرية قصر شاوي.
أسندت الحاجة (أم عبد المنعم) رأسها إلى شبه جدران خيمتها الهشة وهمست للسماء: “هل بموتٍ رحيمٍ يطفئ نار قلبي؟! اللهم أحيني إن كانت الحياة خيرًا، وأمتني إن كان الممات خيرًا لي ” وانهالت باكية والدموع تتعرج على تفاصيل وجهها الذي انهكته الأمراض والشيخوخة.
وبحسب إحصائية صدرت في أواخر عام 2016 عن مدونة (إيدندكس موندي الأميركية) فإن عدد المسنين فوق سن الستين عام في سورية قبل الحرب كان حوالي 6% من عدد سكان سورية أو نحو 1.5 مليون من مجموع سكانها البالغ عددهم 22 مليون نسمة، وأن نسبة اللاجئين منهم تتراوح بين 2.5% في لبنان إلى 3.2% في تركيا و3.5% في الأردن.
كثيرة هي المآسي التي خلفتها سنوات الحرب الثمانية في سورية التي اختطفت من النساء فلذات أكبادهنَّ وخلفت في نفس كل امرأة حربًا داخلية وباتوا يعشنَ بانتظار الموت فقط، فلم تعد تجد بيتاً إلا وفيه مأتم إن لم يكن ظاهراً فهو مضمر في القلوب.