جيهان سيد عيسى |
هذا الصباح انتبهت لنفسي وأنا أرددها كعادةٍ لم تعد تفارقني، أفتتح نهاري بها كل يوم على موقف الباص كجواب لأسئلة فضولي، ثم ترافقني في كل تفاصيل النهار، ربما هي المرة الألف التي رددتها هذه السنة فقط.
عند كل عبور وفي كل محفل وعلى كل منصة حتى على مقعد الحديقة أردد: “من سورية.. أنا من سورية ” عبارة نادرًا ماكنت أرددها قبلاً، لكنها أصبحت اليوم كاسمي أو ربما أهم بالنسبة إلى الآخر من اسمي، وذلك عندما تغير الآخر بالنسبة إليَّ، فقبلاً حيث كنت أعيش في بلدي قبل أن أُقتَلع منه كان كل من حولي مثلي من سورية، وكان هذا التعريف أقرب إلى السخف إن ذكرته بينهم، فقط عليَّ ذكر اسمي لكي أُعرِّف من أنا، أما اليوم فالآخر يحمل عني في ذهنه كل احتمالات الجنسيات الأخرى، كل ملامحها وليست ملامحي وجنسيتي سوى واحدة من تلك الاحتمالات، لذلك دومًا عليَّ التعريف بنفسي على أساس تلك البقعة الجغرافية التي أتيتهم منها، وتزداد مرات تكراري لها كلما ابتعدت خطواتي باتجاه الشمال حيث يضيع اسمي تمامًا وتتلاشى كنيتي وحتى مدينتي وتبقى فقط “أنا من سورية “
أرددها على البسطات، في التكسي، للنادل عندما أعطيه مايزيد من قروش كبخشيش فينظر إليَّ ولا يأخذها شفقة فأنا من سورية، أرددها كهوية عليَّ إبرازها حتى للقطط على شواطئ المنافي فتموء لي ثم تتركني وتركض وهي تحمد الله أنها ليست من سورية.
هوية تصبح حين أنطقها مرآة أكلتها رطوبة البحر تعكس من وراء غباشها موقفًا من أقولها له (الآخر) مني ونحوي.. رثاء، تعاليًا، عنصرية، رفضًا، حقدًا، غيظًا.. كلمات غالبًا لا أفهمها وأرفض أن يترجمها لي طفلي فلا أريد أن أنكس رأسي أمامه فأنا من سورية، وأحيانًا تعكس حبًا موشًى بشفقة أتمنى لو أغرق في قاع بحر ليس له شاطئ على أن أعيش تلك اللحظة..
بمناسبة البحر والغرق، كثيرًا ما أتساءل عند سماعي عن سوري غَرق في البحار قبل وصوله إلى ضفة النجاة المفترضة، ما موقف الأسماك والحيتان منه حين عرفت أنه من سورية؟! ربما يشفع له الغرق بالامتناع عن إجابتها، فكل وسائل الإعلام في العالم عرفته عندما أذاعت الخبر بغريق على قوارب الهجرة غير الشرعية، وقلة جدًا هم الذين ذكروا أنه من سورية، لذلك ستطمئن الأسماك وتلتهمه بصمت لكن تلبكًا معويًا سيصيبها بعدها يجعلها تكتشف أن وليمتها كانت من سورية، فالسوري حسب خبرتها حتى لو غرق يبقى عصيًا عسيرًا على الهضم.
(من سورية) هو اسمي الجديد واسم أولادي وزوجي وأهلي ومئات الألوف مثلي، كأننا ألقينا جميعنا أسماءنا على بوابات الوطن حين عبرنا أسلاكه للمرة الأخيرة.. حتى عندما أموت لن يكتبوا على شاهدة قبري فلانة بنت فلان، سيكتبون فقط وبحروف لا تشبهني (من سورية).
في قبري وللمرة الأولى لن أسأل من أين أنا، فقد حفظ المكان ملامحنا على مر سنوات الموت الماضية، حفظوا قهرنا وموتنا، لكنني حينها لن أرضى إلا أن أذكر بمن أكون بكل فخر وأنا أرفع رأسي الذي أنهكته الأكفان، سأقولها لهم، فليس كل ساكني القبور كبعضهم فالناس مقامات، ذلك التراب الذي يغطينا جميعًا أجداد أجداد أجدادي قبل الميلاد قبل عيسى وموسى منذ هبط آدم الأرض من الجنة نحو دمشق فسكنها وسكنها أحفاده بعده صنعوا منه رُقمًا طينية نقشوا عليها أول قصيدة حب في العالم، أول قواعد لحب الآخر والعالم والكون جميعًا ثم شووه بالنار لأن الطين الذي لا يحترق لا يقاوم ويبقى، لذلك أنا ورغم كل الحرائق المشتعلة في داخلي سأبقى أرددها لكل العالم فوق الأرض وتحت الأرض للأحياء والأموات ولحراس كل بوابات العبور على ضفتي الموت والحياة وعلى كل الحواجز الفاصلة بينهما وفي كل محطات الانتظار: “أنا من سورية .. أنا من سورية”