د. محمد المختار الشنقيطي |
في كتابه القيم: “مذكرات علي عزت بيجوفيتش.. الرئيس السابق لجمهورية البوسنة والهرسك”، يكشف البحَّاثة والمترجم المصري الدكتور محمد يوسف عدس عن جانب خفيٍّ من جوانب مأساة المسلمين في البوسنة أثناء حرب الإبادة التي تعرضوا لها في التسعينات، وهو حيادُ بعض المثقفين المسلمين في البوسنة خلال تلك المعركة الوجودية التي دارت رحاها على أرضهم، وكادت تستأصل شعبهم من جذوره. ويصف الدكتور عدس أولئك المثقفين بأنهم ممن “أصيبوا بضمورٍ شديد في حاسَّة الانتماء الفطري، فصنعوا لأنفسهم هويةً زائفة وانتماءاتٍ أنانيةً من صُنْع أوهامهم…”.
كان المسلمون في البوسنة يواجهون إبادة تحت سمع وبصر العالم على أيدي الميليشيات الصربية، التي دعمتها روسيا بمجاهرة وفجاجة، وتواطأت معها الحكومات الأوروبية حرصاً على عدم ظهور دولة مسلمة داخل أوروبا، ووفَّر لها بطرس بطرس غالي، الأمين العام للأمم المتحدة يومها، المظلة الشرعية بسبب تحيزاته الدينية والطائفية، وظل مُصرًّا حتى نهاية حياته على المساواة بين الجاني والضحية، وعلى أن “المسؤولية مشتركة بين كافة الأطراف المعنية” في تلك الحرب، كما قال في برنامج (بلا حدود) على قناة الجزيرة.
لكن الأشد مرارة من كل ذلك كان حياد بعض المثقفين المسلمين من البوسنيين أنفسهم، من أولئك الذين لاحظ الدكتور عدس أنهم ظلوا “يدورون في دوائرَ مغلقة حول مشكلات الحرب والقتل والاغتصاب، ولكن لا يستطيعون أن يصرِّحوا بوضوح: من الذي يَقتُل، من الذي يطلق الرصاص، من المعتدِي ومن الضحية.”
وكان علي عزت بيجوفيتش مثقفا ذا ذهن وقّاد، وضمير حيٍّ مُفعم بمعاني العزة والحق والعدل، فمقَتَ استعلاءَ أولئك المثقفين على شعبهم، واحتقر جُبْنَهم عن مواجهة التحديات، وتهرُّبَهم من اتخاذ موقف أخلاقي ناصع، رغم وضوح وجه العدالة في قضية شعبهم، وبشاعة الفظائع المسلَّطة عليه.
ويذكر الدكتور عدس أن بيجوفيتش اعتاد زيارة المدارس أثناء الحرب -وهو رئيسٌ لجمهورية البوسنة- والحوارَ مع الأطفال لطمأنتهم وإيناسهم، والتخفيف من أهوال القتال على نفوسهم الطريَّة. وقد أدرك بيجوفيتش أن الأطفال بفطرتهم النقيَّة أعمقُ فهماً وأنصعُ موقفاً من أولئك المثقفين المتحذلقين، ذوي الروح الاستعلائية، والألسنة الطويلة، والضمائر البليدة. وكتب بيجوفيتش في مذكراته عن ذلك يقول: “أجِدُ الأطفال رؤيتُهم شديدة الوضوح فيما يتعلق بوطنهم البوسنة، وعن الشعب الذي ينتمون إليه. هذه المفاهيم واضحة في عقولهم وضوحا لا لبس فيه. بينما أسمع من بعض المثقفين ثرثرةً يقال فيها: (أنا محايد، الحرب لا تعنيني، أنا فوق هذا كله).”
ثم يعلق بيجوفيتش بنبرة مريرة ساخرة من استعلاء أولئك المثقفين المتبلِّدين فيقول: “هؤلاء المثقفون المحايدون دائماً فوقَ شيءٍ ما، خارجَ شيءٍ ما، حتى مع هذا الصراع الدموي الذي قُتل فيه الأطفال، واغتُصبت النساء، هم محايدون. فهل يمكن أن يكون لأي إنسان حقٌّ في الحياد أمام هذا الوضع المأساوي؟!” ثم يضيف بيجوفيتش: “هذا وقتُ نضالٍ، لا وقتَ حياد وسلبية، فالخير والشر لم يتصادما [قطُّ] بمثل هذا الوضوح الشديد، حتى الأعمى يستطيع أن يميز بين هذا وذاك، ولكن هؤلاء المثقفين محايدون، فيا للعار!!”
والغريب ما لاحظه الدكتور عدس من أن أولئك المثقفين الجبناء المحايدين في وقت الحرب، تخلَّوا عن حيادهم في وقت السلم بعد نهاية الحرب مباشرة، و”تبنَّوْا كل المقولات الأجنبية عن الإسلام والمسلمين، وأصبحوا أداة نشطة في إطلاق الأكاذيب والافتراءات على حزب العمل الديمقراطي، وعلى الرئيس عزت بيجوفيتش، وعلى أسرته”!!