حبر – أحمد وديع العبسي |
ترددت في وكلات أنباء متعددة الانتقادات التي وجهها “أحمد داوود أوغلو” للرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” على أنها أول مواجهة بين الرجلين، أو هي مؤشر لانقسام داخل العدالة والتنمية بين مؤيدين ورافضين لسياسات الرئيس، كما وصفتها بعض وسائل الإعلام على أنها ضربة لأردوغان من أقرب الناس إليه ومن داخل حزبه بعد الهزيمة الكبيرة التي مُني بها الحزب في الانتخابات البلدية الأخيرة في إسطنبول وأنقرة.
أحمد داوود أوغلو هو رئيس الوزراء، ورئيس حزب العدالة والتنمية سابقاً قبل الشروع في التعديلات الدستورية التي أظهرت أول خلاف بين رفقاء الدرب والتي شهدت انحياز أبرز مؤسسي الحزب وهو “عبد الله غل” إلى جانب أوغلو، بينما انحاز “بولنت أرينج” إلى جانب أردوغان وهو يشغل حالياً منصب نائب الرئيس، أما “عبد اللطيف شنار” المؤسس الرابع للحزب كان قد غادر العدالة والتنمية في 2007 لينضم للحزب الجمهوري.
بدا الاختلاف واضحاً داخل الحزب منذ ذلك الوقت عندما أصرّ أردوغان على التعديلات الدستورية ليضع معظم السلطات التنفيذية بيد الرئيس، بينما شعر “أوغلوا” و “غل” أن هذه التعديلات هي سلاح ذو حدّين وأن النظام البرلماني أفضل لبلد مثل تركيا شعبه متقلب المزاج ومن الصعب الحصول على ولائه الدائم، ولكن تمّ حل الخلاف داخل الحزب بهدوء لإفساح المجال للتجربة التي أرادها أردوغان أن تأخذ حيزها التطبيقي ويتم اختبارها بشكل مباشر، والتزم الرجلان ومن معهم بالهدوء والمراقبة كي لا يحدثا أي انقسام داخل الحزب يمكن أن يستفيد منه خصومهم.
أراد أردوغان الاعتماد على قوة السلطة في مواجهة التحديات التي تتعرض لها تركيا، فمن وجهة نظره لا يمكن الاحتكام لخيارات الشعب التفصيلية في ظل مواجهة مضطرمة يوجه فيها الأعداء سيل من الضربات المتلاحقة للدولة التركية، بينما ترد الدولة ببرود وتأخذ وقتاً كبيراً لاتخاذ قرارات ربما تكون مصيرية، فأراد جمع السلطة في مكان واحد (باستفتاء الشعب وتفويضه) ينسجم فيه القرار ويجعل صاحب السلطة اكثر قدرة على المناورة السياسية واتخاذ القرارات بسرعة مما يجعلها قوية خارجياً وصارمة، ولابدّ أن تنعكس هذه القوة على المزاج الداخلي الذي سيزيد من قوة وتماسك الحزب مع جماهيره، … بينما أراد أوغلو أن لا تُقحم الدولة الفتية في صراعات قد تؤثر على شعبها مباشرة عندما يكون اتخاذ القرار من شخص واحد وبدون مشورة كافية.
مع صوابية الاتجاهين ووجود تجارب مؤيدة في العالم لكلا الرأيين، لم يكن من الممكن اقصاء أحدهما إلا بالتجربة المباشرة لتركيا، والتي كان “أردوغان” يفوز فيها في كل مرة استناداً لخيارات الشعب التي بقيت مؤيدة له ولو بنسب بسيطة، أو لحجم التغيرات الكبيرة التي عصفت بالمنطقة وكان وجود مكان واحد لاتخاذ القرار في تركيا مهماً من أجل القدرة على مجاراتها.
لكن يبدو أن الحماس الشعبي والسلطوي هو ما حكم الفترة السابقة، والحماس لا بدّ أن يخبو بعد ظهور النتائج، وهوما عبرت عنه الانتخابات الأخيرة التي وضعت العدالة والتنمية في موقف محرج أجبرته به على إعادة مراجعة سياساته للتموضع بشكل أفضل من جديد، ورغم عدم خسارة “أردوغان” فعلياً إلى الآن، إنما تبدو نظريته غير متماسكة، فصرامة وقوة الموقف التركي خارجياً جوبهت بقوة مضاعفة وضربات أكثر تأثيراً من أعداء تركيا، مما أثر على الموقف الشعبي والاقتصاد التركي وبالتالي تراجع ثقة الشعب بالحزب الحاكم، وظهور فجوة بدت كبيرة (في الانتخابات الأخيرة) خاصة وأن الحزب خسر جماهريته الكاسحة لصالح الفوز بفارق ضئيل منذ الانتخابات البرلمانية الأخيرة والاستفتاء كذلك على التعديلات الدستورية، ولم يكن الحسم قوياً وصارخاً إلا في الانتخابات الرئاسية التي كانت شخصية “أردوغان” والكاريزما السياسة التي يتمتع بها الرجل وتاريخه الناجح هي التي جعلته يتفوق على مرشحي الأحزاب المعارضة الذين افتقروا لأي صفات تنافسية، وهي ما جعلت الرئيس يزداد ثقة بنفسه وبخيارته في التعديلات الدستورية والتحول للنظام الرئاسي مستغلاً وقوف الشعب إلى جانبه الذي بدا أقوى من وقوف الشعب إلى جانب الحزب الذي يرأسه، ولهذا أيضاً ربما أصرّ الرجل على الجمع بين رئاسة الحزب والدولة في التعديلات والتي أراد بها عدم التفريق بين شعبية الرئيس والحزب الذي ينتمي إليه. وجعل شعبيته مكسباً لحزبه يساعده في زيادة الثقة به والمؤيدين له داخل الحزب.
رسالة “داوود أوغلو” تضمنت نقاط عدّة يبدو أن النصح الداخلي الذي يقدمه بشأنها داخل الحزب لم يعد يلق آذاناً صاغية، لذلك قرر كتابتها علناً وهو يُعرّض فيها برئيس الجمهورية في أكثر من مكان بلغة الناصح المحاور الذي يدعو الرئيس للعودة للممارسة السياسية الهادئة والابتعاد عن الممارسة السلطوية فحسب، ومحذراً إياه من مغبة التعنت برأيه والاتكاء على من يؤيده فقط.
تضمنت رسالة “أوغلو” في البداية التركيز على المبادئ الخمسة التي قام عليها حزب العدالة والتنمية وهي القيم والخطاب المتسق معها والعلاقات الاجتماعية والتنظيم المميز والفكر الحر، وبدأ يشرح كيف أن الخطوات الأخيرة التي تنتهجها السلطة (الرئيس) تضرب بهذه المبادئ أو الأساسات التي صنعت شعبية العدالة والتنمية.
في البداية ذكر “أوغلو” أن الخطاب السلطوي والأمني الذي يضع الدولة في المركز ويفصل بينها وبين الشعب هو المشكلة، وهو يختلف عن الخطاب السياسي الذي يدير المشكلات بتوازن في الدولة ويكفل الحريات للجميع، من هذا المنطلق يبحث “أوغلو” عن إعادة الخطاب السياسي ذو الأقطاب المتعددة في مواجهة الخطاب السلطوي ذو القطب الواحد أو البعد الواحد الذي يركز على من بيده السلطة ويسعى لحمايتها عن طريق حماية الدولة، وجميع المحاور أو المشكلات الأخرى التي تعصف بالحزب وقيمه من وجهة نظر “أوغلو” تندرج تحت سيطرة هذا الخطاب.
فعزل الأشخاص الذين نالوا ثقة الشعب وانكماش الحالة التشاورية، والتحالفات التي لم تستند لقيم الحزب والتي أضرت به من وجهة نظر “أوغلو” والنظام الرئاسي الذي يكرس البعد الواحد في الخطاب والسلطة، والقيادة الاقتصادية المتفردة وغير المستندة للخبرة، وغير ذلك من الأمور التي ذكرها رئيس الوزراء السابق في رسالته العلنية هي تحول خطير تجاه العمل السلطوي على حساب السياسة والعمل السياسي.
ولأن “أوغلو” يريد الوصول إلى حل والمحافظة على وحدة الحزب كان خطابه هادئاً بنفس الهدوء والبرود الذي طالب به من أجل مناقشة المشكلات ولم ترتفع نبرة الخطاب إلا عند التعرض للأزمة في الاقتصاد الوطني الذي يعد المجال الأبرز الذي صنع للحزب شعبيته فتحدث للرئيس بشكل مباشر عن التعيينات وبعض المحسوبيات والاتجاه لإغلاق المشكلات بدلاً من حلها مما يجعلها في تراكم مستمر.
لا يرتقي خطاب “أوغلو” ليكون مواجهة مع “أردوغان” وإنما هو أقرب للحوار العلني الذي يريد من الجميع التوقف والاستماع والمراجعة، وعدم الانجرار لقوة السلطة التي يمكن أن تدمر كل شيء، ولا أظن أن الخطاب يحمل أي لغة تصعيدية يمكن أن تهدد الحزب بالانقسام وتشكيل حزب جديد يخرج من العدالة والتنمية، وإنما هناك إصرار على ضرورة الحفاظ على الحزب وإصلاحه ومراجعة سياساته الأخيرة التي سببت المشكلات، والتي التزم الصمت حيالها في الفترة السابقة لكي تخوض التجربة دون أي تشويش داخلي، ولكنها فشلت برأي البرفسور الذي يحب دائماً تصفير المشكلات وحلها، وليس الدخول في مواجهة مع أصحابها.
في واقع الحال يبدو أن الرجلين على حق، ويصعب التنبؤ بما كانت ستؤول إليه الأمور لو أن سياسات “أوغلو” الهادئة هي التي طبقت في المرحلة السابقة التي تعرضت فيها تركيا لهجمات كبيرة في شتى المجالات، ويبدو إرضاء المواطن في خضم الأزمات أيضاً مهمة صعبة وشبه مستحيلة، فلا بدّ لأي صراع من تكلفة هناك من يراهن على إدارته بشكل يخفف من الخسائر وهناك من يراهن على المكاسب بعد تحقيق النصر فيه، بدلاً من إدارة طويلة الأمد قد لا يمهلك فيها الأعداء وقتاً لتنفيذ سياساتك.
تبدو المشكلة الكبرى من خلال رسالة “أوغلو” هي في خسارة القرار التشاوري لصالح القرار الفردي، وربما ما تحتاجه السلطة في تركيا هي القرار الاستشاري الواسع أكثر من القرار التشاوري الذي ربما يكون بطيئاً ومعطلاً، عن طريق مشاركة أكبر للحزب بجميع تياراته في مناقشة القرارات وإبداء الرأي قبل المضي بها من قبل الرئيس ومؤيديه، والاستماع للمخاطر بجدية، وعدم الانجرار للغة السلطة والصلاحيات دائماً، والتي مازالت الثقافة الشعبية تجاهها هشة والمعارضة في الشارع لها كبيرة في الحزب وخارجه، والانتقال التدريجي نحو التعديلات الدستورية.
قليل من السلطة وقليل من الهدوء، جمع عقلية البرفسور السياسي إلى عقلية السلطوي السياسي، وليس الاكتفاء بأحدهما، فالتجربة السياسة لا تخضع للنظريات بالهدوء الذي يريده “أوغلو”، ولا تقبل بمنطق السلطة المطلقة التي يمارسها “أردوغان” الآن، كما يصفها “أوغلو” في رسالته.