د. وائل شيخ أمين |
لمن يريد زبدة المقال سأقولها بوضوح واختصار ثم أنتقل للتفصيل: “لم يتوعد الله الظالمين في الدنيا بالانتقام المادي منهم، بل قد يعيشون ويموتون ونحن نراهم بأحسن حالٍ لهم، لكنه توعدهم في الدنيا بما هو أعظم وأخطر من ذلك بكثير، وهو أن يضلهم عن الهداية ليخسروا بذلك آخرتهم”.
إن الغالبية العظمى من الشبهات لدى بعض الشباب تدور حول نقطة واحدةٍ هي: أسئلة العدالة الإلهية، منها لماذا لا ينتقم الله من الظالمين في الدنيا، وقد وعدنا بذلك؟
عندما تشتد الأزمات بنا ويبطش الطغاة بضعفائنا فإن الكثيرين يواسون بعضهم بالقول:
“كل ظالم وله يوم، لا بد أننا سنرى عاقبة الظالمين في الدنيا قبل الآخرة، دعوة المظلوم لا ترد..” وغير ذلك من المقولات التي تنتشر كثيراً وسبب تصديقنا لها على الوجه الذي نحبه أمران:
1-هنالك خطاب دعوي سائد محمّل بهذه الأفكار.
2-هذا الاعتقاد يريح نفس المظلوم من أن الله سينتقم ممَّن ظلمه بلا شك، وسيشهد هو هذا الانتقام.
فهل هذا التصور دقيق؟! الجواب: إن الله سبحانه وتعالى ما وعدنا بأن ينتقم من الظالم في الدنيا انتقاماً مادياً كقتل أو إفلاس أو مرض أو تضييق أو غير ذلك، والأمثلة على الظالمين المعاصرين اليوم الذين لم يعاقبهم الله في الدنيا أكثر من أن تحصى، خذ مثلاً (مصطفى طلاس، حافظ أسد، رفعت أسد، جورج بوش الأب والابن، ماو تسي تونغ..) وغيرهم كثير.
وقد كان القرآن صريحًا جدًا في هذا بآيات عديدة منها قوله تعالى:
“ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار”
ويقول تعالى: “والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، وأملي لهم إن كيدي متين” فالمقام هنا مقام وعيد، والله توعدهم أن يتركهم في هذه الدنيا بدون عقاب، بل وأن يمدهم فيها ويعافيهم من الانتقام، فكيف يكون هذا وعيداً؟!
المشكلة في طريقتنا السائدة في التفكير هي أننا نفترض أن العدالة يجب أن تتحقق في الدنيا، وإن كان الأمر كذلك فلماذا اليوم الآخر أصلاً؟!
مشكلة ثانية كبيرة جداً وهي: أن من لا يرضيه إلا انتقام مادي في الدنيا هو شخص تضخمت الدنيا لديه بشكل كبير، والأصل عند المسلم أن المركزية للآخرة وليست للدنيا، وأن الدنيا وكل ما فيها لا تعدل شيئاً بالنسبة إلى الآخرة.
فأي عقاب للظالم في الدنيا مهما كان كبيراً فهو عقاب صغير جداً، أما العقاب الأكبر فهو أن يملي له الله فيزداد إثماً وذنباً ثم يخسر بذلك آخرته، وذلك هو الخسران المبين.
فالعقاب الأكبر للظالم أن الله يحجب عنه نور الهداية: “كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون”. وان يحرمه الهداية: “ويضل الله الظالمين”.
العقاب الأكبر، والخسران الأعظم، هو عقاب الآخرة وهو ما توعد الله به الظالمين.
أما الدنيا فهي أحقر من ذلك بكثير، وأهون على الله من ذلك بكثير، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء”.
هل هذا يعني أن الله دائمًا يملي للظالمين ولا يعاقب أحداً منهم؟! ليس الأمر كذلك، بل ينتقم من بعض الظالمين ليكونوا عبرةً لغيرهم، وليرينا جميعًا قوته وبطشه، لكن هنالك فريق كبير بين الوعيد القطعي الحتمي لكل ظلم وبين إصابة بعض الظالمين بشيء من العذاب ليكونوا عبرةً.
كل ذلك يجعل المؤمن يزداد إيمانًا بأنه سيأتي يوم يشهد فيه عذاب من ظلمه، وبأنه سيستوفي حقه منه حتى يرضى.
كما أننا جميعًا لا نأمن أن نكون من الظالمين، وأكثر ما يجب أن نخشى منه حال وقوعنا في الظلم هو أن يحرمنا الله الهداية ويضلنا عن سبيله فنخسر آخرتنا.
أما بعض مصائب الدنيا التي تصيبنا فلعل فيها خيراً حتى تكفّر عنا بعض سيئاتنا وتقربنا من ربنا فنتوب إليه.
ووالله الخوف كل الخوف من أن تقع في معصية أو ظلم ثم لا تتوب ولا ترى عقاباً في الدنيا، الخوف كل الخوف أن يعاقبك الله بأن يضلك.
اللهم نجنا من الظلم والظالمين وانتقم لنا ممن ظلمنا.