غسان الجمعة |
لم يكن ترجيح بوتين لعمل عسكري على إدلب مؤخراً احتمالاً كما زعم، بل كان إيعازاً بالهجوم، فسارع الأسد وحلفاؤه لتنفيذه بناء على رغبة روسية لحسابات موسكو الإقليمية والدولية عندما وجدت بوادر ظهور تقارب للحل بين واشنطن وأنقرة في مسألة شرق الفرات، فتحولت ورقة الضغط من الحقائب الدبلوماسية إلى قاعدة حميميم التي تطبقها على رؤوس المدنيين الذين زعم بوتين مراعاة وجودهم!
التصعيد الروسي على إدلب هو بمنزلة تذكير لتركيا بخطواتها مع موسكو في الملف السوري الذي تناور فيه مع الأمريكيين أيضاً، وهو للمحافظة على مركز أنقرة في نقطة التوازن بين قطبي الصراع (الولايات المتحدة – روسيا) على أقل تقدير رغم المحاولات الكثيرة من الأمريكيين لجذب أنقرة من جديد نحو فلك الناتو.
كما أن وصول مسار أستانة إلى طريق مسدود دفع بالروس إلى تغيير الوقائع الميدانية (إن نجحت) بهدف تغيير المعطيات السياسية، لا سيما بعد رفض المبعوث الأممي (غير بيدرسون) لستة أسماء من مرشحي المجتمع المدني للعضوية في اللجنة الدستورية المزمع تشكيلها، وهم من الأطراف المحسوبة على الروس والأسد.
من جانب آخر لم يرق لموسكو تصريح (جيمس جيفري) المبعوث الأمريكي لسورية حول مسار أستانة عندما وصفه بأنه لم يحقق أي تقدم في تطبيق القرار2254 حول سورية؛ لذلك تسعى موسكو عبر دموية آلتها العسكرية إلى لفت انتباه الولايات المتحدة وحلفائها لأهمية هذا المسار كونه ضابطاً لإيقاع العمليات العسكرية وأحد أهم الأسباب التي توفر على أوربا المزيد من موجات النزوح بشكل أو بآخر، وهو ما قد يعجز عنه أي مسار آخر موازٍ حتى جنيف نفسه.
أما على الصعيد العسكري فقد باتت حرب العصابات على طول خطوط الجبهة رداً على خروقات الأسد مدعاة قلق لدى العسكريين الروس بعد استنزاف العشرات من جنود الأسد بين قتيل وجريح الشهر الماضي، كما تلقى الروس أنفسهم ضربات خلفت قتلى في مطار حميميم العسكري.
هذه التطورات دفعت موسكو للبدء بعمل عسكري للضغط على أنقرة لوقف هذه العمليات والدفع بها نحو تطبيق مقررات اتفاق سوتشي العسكرية والاقتصادية بهدف ضخ الحياة في الشريان الاقتصادي لدمشق من جهة، ومن جهة أخرى محاولة روسية لكشف الوضع الضبابي الذي تحاول تركيا الحفاظ عليه في منطقة خفض التصعيد لأسباب سياسية وعسكرية متعلقة بشرق الفرات، والتي لم تعد تجد لدى الروس آذان صاغية خصوصاً مع بدء صراع مبكر على تركة الدولة السورية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً تخوضه مع منافستها الحليفة (إيران) التي تحاول استنساخ التجربة العراقية في سورية للحفاظ على قدمها فيها دون أثر يقتفى أمريكياً أو إسرائيلياً، وهو ما تحاول موسكو تجنب حدوثه، لكنها لا تريد مَن يخلط أوراقها خلال وفائها بتعهداتها للإسرائيليين في إدلب أو غيرها.
المدنيون في إدلب هم الخاسر الأكبر لأي تطورات جديدة، والخطر الأكبر يكمن بمتغيرات ترتيب القضايا في الملف السوري بالنسبة إلى السياسة التركية رغم صلابة موقفها وبقاء نقاط المراقبة في مراكزها، إلا أن الاستعداد للاحتمال يبقي ضرره في حال حدوثه أقل وقعًا ميدانياً وحتى نفسياً.