جاد الغيث |
قبل استشهاد أبو عبد الرحمن بيومين، ضم زوجته إلى صدره وهمس في أذنها:
“القصف لا يتوقف وأنا خايف يصير شي عليَّ، إذا متت الأولاد أمانة برقبتك” لم تدعه أم عبد الرحمن يكمل كلامه، غمرت دموعها وجهها، وهي تشعر بأمان نسبي بقرب زوجها، بينما كان صوت طائرة حربية في السماء يشق سكون الليل وبرده!
كان قلب أبو عبد الرحمن معلقًا بابنه يوسف الذي لم يكمل العامين، في آخر ليلة له في هذه الحياة نام بقربه كأنه يودعه، قبَّله من وجنتيه مرات عديدة، واستسلم لنوم عميق لآخر مرة في بيته الصغير وعلى فراشه البسيط.
في صباح اليوم التالي كان أبو عبد الرحمن في عداد الشهداء، وكان على الأم المنكوبة أن تنسى حزنها ودموعها وتنسى أنه من الواجب عليها شرعًا أن تعتد على موت زوجها بتجنب مخالطة الرجال والبقاء في البيت إذا كان ذلك ممكنًا!
ولكن أين هو البيت الذي ينبغي أن تقضي العدة فيه؟!
حكاية يوسف تختلف عن حكايات كثير من الأطفال الذين اضطروا للرحيل قسراً عن بيوتهم، ربما كان بعضهم محظوظًا لأنه حمل معه لعبة يحبها، أو دفترًا لرسومه الملونة، أو ذكرى تبقى له رفيقاً في رحلته الطويلة المؤلمة، أما الصغير يوسف ذو العامين، فلم يكن لديه سوى معطفه المطري القديم، معطف ممزق الأكمام، لونه فضي كالح مرتبط بقبعة محشوة بفرو مهترئ لا يجلب الدفء.
اختبر يوسف معاناة التهجير وفراق والده دون أن يعي ما معنى أن يكون مُهَّجرًا بلا بيت ولا سقف يحميه، أما أخوه الأكبر عبد الرحمن فهو تجاوز السبع سنوات ويعرف جيدًا ما معنى الخوف والقهر وفقدان الأب والبيت، الخيمة الجديدة التي احتوت أم عبد الرحمن وطفليها لا تعد مكانًا مناسبًا لحياة كريمة، فهي لا تحمي يوسف من البرد الذي يجعله يبكي في منتصف الليل، فتضمه أمه إلى صدرها ويبكيان معًا، بينما تلمع عينا عبد الرحمن بدموع لا يعرف معناها.
لكن يوسف يحب أن يكون لديه ألعاب يلعب بها مع أقرانه وثياب صوفية تحميه من البرد، هذه التغريبة القاسية لم تترك له مساحة ليعيش طفولته كما هو حال أطفال العالم.
لقد وصل عدد الأشخاص المهجّرين إلى أكثر من ربع مليون إنسان في كانون الأول 2019 ومع دخول عام 2020 كانت المعرة خالية من سكانها.
شهر كانون الأول 2019 كان شهرًا دموياً شهدت فيه الطرقات والأزقة والبيوت وداع أهلها، آلاف السيارات مليئة بالنازحين يشقون الشوارع برعب لا مثيل له خلف دخان القصف الكثيف الذي يغطي السماء فلا يعرف لونها، سيارات محملة بالأثاث ومحشوة بقلوب ترتجف تسير كطابور ليس له أول ولا يظهر له آخر، مأساة توجع قلب من يملك ذرة إنسانية، لكنها لم توجع ضمير العالم الذي يرى المهجرين وقد حرموا من أبسط حقوقهم وينتظرهم مصير مجهول يهدد مستقبلهم.