ليس أمراً سهلاً أن تأخذ دور المحلّلين العسكريين والقادة الميدانيين لتتنبّأ بوجهة المعركة الجديدة، وما ينتظر بقيّة المناطق المحرّرة في ظلِّ إصرار الجميع على إخراجها باللون الأسود الحالك الظلمة كالليل الذي يعتري تصوراتِنا وأفكارَنا ويأسنا الذي يكبر يوماً بعد آخر.
ولكنَّنا ككُتَّابٍ نريد أن نذهب بالسؤال إلى مكانٍ آخر بعيدٍ عن المعركة بشكلها التقليدي، والذي ربَّما لا نجيده كفايةً، نريد أن نتوجَّه إلى حيث ساحاتنا التي نجيد القتال فيها، وخوض غمار الجبهات والمرابطة، وحشد جميع الطاقات للنصر.
سيبدو أمراً مكرّراً جداً عندما أقول إنَّها معركةٌ في الوعي حيث تنتصر الأرض لمن يفهمها، ولن تنتصر لأصحاب النار والدماء، ولكنَّ هذا التكرار يأبى إلَّا أن يفرض نفسه مع كلِّ صراع يتصور فيه أنَّ الحسم على الأرض سيكون النهاية لكلِّ ما سبقه من نضالٍ من أجل المبادئ.
إنَّ الانتصار الحقيقي سيتكوَّن في أذهانِ الناس ومرجعيَّاتِهم وقناعاتِهم التي تتغيَّر دائماً وليست ثابتةً كما يتوهَّم البعض، بل هي في تغيرٍ مستمرٍ لصاحب الدعاية الأقوى والحجة الأمضى، فمهما كان الناسُ منساقين خلف مشاعرهم، فإنَّ هذا الانسياق لا يدوم طويلاً، عندما تكون التكلفة متوازنةً في الاتجاهين، وتصبح التضحية في سبيل المقولات التي تستند للحقِّ والعدالة والحرية، تضحيةً ذات معنى، وحذارِ أن تكون مكلفة بطريقةٍ تجعل الناس يركنون للباطل والظلم فقط لأنَّه الأكثر استقراراً وأماناً.
غالباً ما تقع الثورات فريسة هذه المعادلة، ويرهق أهل الحق الناس بعذاباتٍ تجعلهم يحاربونهم بدل الوقوف إلى جانبهم، وغالباً ما يُكرَّر هذا المشهد بغباء استثنائي ومازال كذلك حتى اليوم.
الحسم اليوم وفي هذه اللحظات لمن يستطيع صياغة المعادلة بالشكل الأفضل، وإيصال الناس للوعي الذي يناضل في سبيله، دون أن يجعلهم يدفعون حياتهم في سبيل ذلك، فالنضال يكون من أجل الحياة وكل شيءٍ يستهلك الحياة كاملةً لا يبقي قيمةً حقيقية لما يناضل في سبيله، أمَّا الأجيال اللاحقة فالفهم الجمعي يقولها بصراحة، “عليهم أن يحلوا مشاكلهم بأنفسهم”. والذين يموتون من أجل ذلك هم قلةٌ لا يُقاس عليها نصرٌ حقيقي ولكن بنفس الوقت هم الوقود لصناعة مقولاتِ ذلك النصر.
المدير العام | أحمد وديع العبسي