منيرة حمزة |
استندت إلى نفسي، ونهضت من جديد، وفتشت عمَّا في داخلي فاكتشفت ذاتي، لأنه ليس من الضرورة أن تكوني صاحبة شهادات جامعية لتشعري بذاتك وأهميتك، فتلك نظرة خاطئة من الذات والمجتمع معًا.” بهذه الكلمات القوية كانت تبدأ السيدة (هدى) حديثها أمام صديقاتها، لِما رأين فيها نموذجاً عن المرأة القوية والناجحة والصابرة في آن واحد… فكمية الرضا في عينها، والثقة في كلامها، والقوة في شخصها، جعلتها محط إعجاب الجميع، وكسب احترامهم وتقديرهم ومصدر إلهام لهم.
السيدة “هدى” امرأة في عقدها الرابع من العمر، أمّ لأربعة أولاد، أكبرهم شهيد، وأصغرهم معتقل، وزوجها مُتوفى، تعيش مع ابنتيها في مدينة إدلب منذ عامين بعدما تهجرت من ريف دمشق، ومع ذلك لايزال بريق الأمل يشع من عينيها، تواسي نفسها بنفسها، وتجبر قلب الأمهات المكلومات مثلها، بعبارات الصبر والشكر لله على كل الأحوال، فهي خاضت غمار الحياة بكل عزيمة وثبات، وذاقت من القصف وأيام الحصار مالا يتحمله إنسان، فقدت فيها زوجها وابنها الكبير، ثم تهجرت مع ابنتيها للشمال وقلبها معلق وراء قضبان السجون عند ابنها الآخر، ومع ذلك فهي راضية بقضاء الله، راجية منه الفرج القريب..
لم تستطع ظروف الحرب أن تكبلها وتمنعها من متابعة حياتها وإعالة ابنتيها رغم قلة حيلتها، فبحثت في مكنونات نفسها ما الذي تستطيع فعله؟ كيف لها أن تأمن دخلاً لها ولعائلتها وهي لا تملك مهنة معينة ولا يسعفها الحال على البقاء دون مورد ثابت يعينها؟ لكنها تذكرت أن طعامها مميز، وطبخها شهي، فعملت في إعداد الطعام، وصنع (مطربانات) المونة التي تشتهر بها العائلات السورية وبيعها في السوق، وشيئًا فشيئًا استطاعت أن تكتسب شهرة وإعجاب من الزبائن، بسبب جودة عملها وإتقانها جميع أصناف الطعام، وساعدتها وسائل التواصل الاجتماعي في عرض عملها ونشر عنوانها لمن يرغب بشراء مونة منزلية جاهزة.
باتت تُعرف السيدة (هدى) بين جارتها بصاحبة (النَفَس الشهي) واليد الماهرة، وهي لم تبخل بما لديها من معرفة وعلم، فراحت تُكسب خبرتها تِلك لكثير من النساء في إعداد مختلف أصناف الطعام للواتي يرغبنَ بذلك.
أصبحت السيدة (هدى) نموذجاً رائعًا للمرأة الناجحة، التي تصنع من اليأس أمل، ومن الملل عمل، وتنتج طالما أنها قادرة على ذلك. اعتادت في كل أسبوع أن تجتمع عندها صديقاتها وجارتها وكل من يريد أن يستمع إلى حديثها الدافئ، المشحون بالأمل والمليء بالحب. كانت دائمًا تُقوي في حديثها من عزيمتهنَّ، وترفع معنوياتهنَّ، فيخرجنَ وهنَّ يشعرنَ بأهميتهنَّ في الحياة، وعلو شأنهنَّ.
وفي كل مرة تحث السيدة (هدى ) النساء اللواتي تقابلهنَّ على تقدير ذواتهنَّ وحب أنفسهنَّ كيفما كنّ، بكل أدوارهنَّ في الحياة سواءً كأمهات أو مُربيات، أو زوجات أو أخوات، والعمل على اكتشاف نقاط القوة في داخلهنَّ وإبرازها وتطويرها، هي تُردد دائمًا جملتها الشهيرة: “الأنثى وردة.. أينما وُجدت أزهرت”
هكذا تصبح المرأة السورية امرأة حديدية بكل معنى الكلمة، تُرمم ما بقي من روحها وتقف على قدميها من جديد، لتكمل ما بدأته..
غير أن الطريق الذي سلكته السيدة (هدى) انقطع فجأة! بعدما ارتقت في آخر تفجير استهدف مدينة إدلب أثناء عودتها إلى المنزل بعدما أوصلت طلبية لإحدى العائلات..
رحلت وبقيت سمعتها العطرة حاضرة أينما ذُكر اسمها، فحكاياتها عن المرأة القوية تتناقلها النسوة وتترحم عليها وتحن إلى جلساتها الجميلة..
ما أحوجنا اليوم في مجتمعنا إلى نساء قويات فاضلات كالسيدة (هدى) التي تُقدر ذاتها وتعرف ما تريد.