قد تنتهي الحرب في سورية باتفاقيات خفض التوتر والتهدئة لتنهي حالة الصراع التي دامت سبع سنوات، إلا أنَّ انتهاءها لن يغلق الستارة على مسرح ارتكبت فيه جرائم حرب راح ضحيتها مئات الآلاف من المدنيين، ومايزال يقبع في غياهب سجونه آلاف آخرون من المعتقلين مجهولي المصير، وذلك في رواية تراجيدية تحكي قصة المأساة وتنهيها في آنٍ واحدٍ ولا يمكن للجرح البليغ الذي شقَّ طريقه في ذاكرة السوريين أن يلتئم بانتهاء هذه الحرب ليعودوا تحت رحمة الجلاد من جديد. انتهاء الحرب لا يعني بالضرورة انتهاء الثورة، وإنَّما هو صباحها الجديد لا أكثر، إذ لم تكن الثورة في مطلعها حين خطت أنامل الأطفال ألوان الحرية على جدران درعا في شهر آذار 2011 حرباً شنها السوريون على النظام لتنتهي اليوم باتفاقيات تهدئة بين أطراف لم يكن الشعب السوري جزءاً فيها، وإنَّما كانت ثورة حقيقية، ثورة لانتزاع الكرامة من الجلاد وإعادة الحرية ورفع سوط العدالة المزيفة ذات الوجه الواحد الذي رسخه المستبد، هذه الثورة التي سدد فاتورتها هذا الشعب من دمائه لن يقرر عنه أحد متى تنتهي، فالثورة مرهونة بالمآلات والنتائج التي كانت سبباً في بزوغها، ولا يمكن للتضحيات أن تتوقف ما لم تتحقق النتائج، فالحرية والعدالة والكرامة هي نتائج الثورة التي لمَّا تتحقق بعد، وامتلاء الشوارع والساحات بجموع الجماهير الغفيرة والمطالبة بتلك الحقوق العادلة هي أكبر شرعية على تلك الحقوق التي طالبوا بها على مرِّ سنوات الحرب وما دمج مفهوم الثورة بالحرب إلا نوع من الثورة المضادة لانتهاك عذرية الثورة وعفتها بأذرع إعلامية إقليمية ودولية ترعاها طهران وموسكو وتدعمها الإمارات ومصر والسعودية محولة إياها إلى حرب أهلية بين أطراف بينية في مجتمع واحد لكل منه حقوقه وشرعيته، ضاربة ً عرض الحائط سجلاً من الجرائم المرتكبة من حاكم مستبد بحق شعب أعزل.
ولعلَّ نجاح الدبلوماسية الدولية بتوليد الثورة بتنسيب الفصائل المعولمة ـ الابن المفضل للغرب ـ لها وعمل الأخيرة على ترسيخ ذلك معتليةً منبر الثورة والثوار جرها إلى مستنقع من الأيديولوجية التي أجبرت حاضنتها على الانفضاض عنها للوقوف على الحياد؛ وذلك لانحراف بوصلتها وفق الدعاية الإعلامية ذات التوجه الأحادي الموجه الذي أدار دفتها مؤثراً بذلك على الرأي العام الذي تم صناعته بأيدٍ متقنة.
بقيت الثورة حبيسة كل مشروع يخرج للساحة في كل مرحلة، فمن صفاء الثورة إلى تسلق العلمانيين بخيالات مشاريع الحضارة الغربية ليتبعهم السلفيون بإدخال الثورة نفقاً ضيقاً بإحالتها لحرب سنية شيعية نصيرية كانت بوابة دخلت منها داعش لتثبت أقدامها وترفع شعارات تحارب بها العالم كله مبتدئة بأضعف نقطة فيه وهي الشعب السوري ذاته الذي لولا جماجمه التي نثرت ودماؤه التي سفكت لما حظيت بتسجيل اسمها ولا حتى على هامش التاريخ، وتنتهي السلسلة أخيراً بإدارات مدنية تحكمها أيدٍ عسكرية خفية جاعلة من الشريعة بوابة لحكمها، وعلى ذلك فالثورة مختطفة لا بدَّ من تحريرها، لأنَّ عداد زمن العبث الدولي بالأرض السورية مرتهن بفك ارتهان الثورة من جلادها المحدث، سيمَّا وأنَّ سمة الإرهاب قد تجلت على الرقعة المتبقية للمعارضة السورية التي انحسرت فيها كل فصائل المعارضة من بقاع سورية وباتت قريبة الاجتزاء والاقتسام الدولي الأمريكي بذراعه الكردية والروسي بقواته، أو بحليفه متمثلاً بالنظام السوري وأخيراً إيران وحزب الله.
فواجبنا اليوم هو أن نسمي الأمور بمسمياتها، فالحرب مرحلة من مراحل الثورة وليست الثورة ذاتها رغم كونها المدعاة الأساسية لكل المعاناة التي وصلت لها الثورة اليوم، واتخاذ خطوات جريئة بإيقافها لا يعني إغلاق بوابة الجهاد الشامي كما تصورها بعض الأذرع الإعلامية التي تنتمي لجماعات معولمة للجهاد، ولا هو خنق للثورة، ولا إفشال لها بعد كل التضحيات التي قدمت، بل هو فك لقيودها وتحرير لها من معتقليها لتعود إلى أيدي من أطلق شرارتها وتحمل عبئها، واجبنا أن نتجاوز الحرب لما بعدها، وأن نعود لثوابت الثورة التي كتبها دم شهدائنا واضحة جلية، الحرية والعدالة والكرامة، وأن نسعى مع حواضن الثورة للوصول لهذه المطالب الشرعية، وأن نقف صفاً واحداً بوجه المستبد أياً كانت هويته، وأن نصنع للثورة إعلاماً موحداً ينطلق من معاناة الشعب وينتهي بمطالبهم وفق مشروع لا يخدم فئة بعينها ولا جماعة منغلقة على مصالحها، وأن تتجمع الكوادر والنخب الثورية من جديد ليعود كل لاختصاصه، فالجماهير تملأ الساحات لتعبر عن مطالبها بالهتافات، وعلى السياسيين تحمل مسؤولية رفع تلك الأصوات عالياً في المحافل الدولية والمؤتمرات الإقليمية، وهنا لا أتكلم عن توحيد كيانات وهيئات، فقد لاقت التجربة خيبة بعد تكرارها على جميع أصعدة التوحد والاندماج في شقيها العسكري والمدني، وإنَّما أشير إلى تكاتف بين أصحاب الموارد لتحقيق ذات الهدف واجتماع النخب على أسّ الثورة ومبدئها الأول وليعمل كل بطريقته، لكن لتحقيق الهدف ذاته، لإسقاط كل المستبدين ابتداءً من النظام وانتهاءً بآخر كيان خان الثورة واختطفها وتاجر بها، فالشعب الذي وقف بصدره عارياً أمام دبابة الطاغية في الأمس لن يركعه رغيف خبز حرم منه اليوم والذي قدم روحه ودمه مقابل المضي في درب الحرية لا يمكن لقوة أن تلوي طريقه أو تجبره على التوقف والركون للاستبداد مرة أخرى .