ما يحدثُ الآن في الغوطة هو هوام الموت، الناس ذاهلون حتى عن أرواحهم، النساء تندبُ والرجال يبكون، والكل يتقاسمون الخوف والموت والدم على السواء.
أكثر ما يخيفهم .. إصابة أو بتر
أستطيع أن أحس كلّ ما ينتابهم، وجوههم شاحبة لا تعابير فيها، نظراتهم جاثمة على الفراغ، يدعون الله بأفواه فاغرة وصوت متقطع.. يبتسمون للنهاية أحياناً، فلا يستطيعون أفضل من الابتسامة وقد تركوا وحدهم تماماً في قفص مظلم مع أبشع مجرمي البشرية
لا يعرفون ما يريدون صراحةً ..
سيقولون لك نريد أن نخرج .. سيعودون ويقولون نفضل الموت على التشرد خارج الديار، وهم الذين رأوا كيف تشرد من قبلهم، وبدل احتضان الأخوة .. كانت قسوة الغلاء والمتاجرة والتمييز .
الغوطة ليست أرضاً تختلف عمّا سواها، أذكر جيداً كيف وضعت داريا على المقصلة، وسُلبت روح الثورة من بين أضلاعنا، كيف ثملت عينا حلب وصرنا نهيم فيما بعدها، كيف انتُزع قلب مضايا وما حولها .. كيف صُلبت الوعر على أعمدة حمص القديمة
وأذكر كيف صرخنا، كيف انتفخنا صراخاً وزعيقاً وذرفنا أكواماً من الدموع البائسة
أنا مثلهم اليوم لا أعرف ما يريدون، ولا أجد لي حقاً في أن أقول ما أريد
للموت حقٌ في أرواحنا .. علينا جميعاً أن نصبر حتى يأخذ حقّه كاملاً، أو أن نجزع لذلك، لا فرق .. الموت سيأخذ ما يريد جزعنا أم صبرنا
الدم سينزف حتى تشبع الأرض، سيكون هناك ثكلى، وآرامل، وأيتام بحجم هذا الوطن، سيمر الجوع مرات عديدة خلالنا، وستقتلع الريح مزيداً من الخيام، وسيأكل البرد بعضاً من أرواح ضعيفة لا تقوى على الصمود في وجهه، سيحدث ما هو أقسى من الخراب الكبير الذي تجرعناه كاملاً
إننا نناضل من أجل الحرية .. من أجل وطننا الذي سلب منا وما يزال، ولن نهدأ أو نستريح ساعة قبل أن نحقق ما نصبو إليه، لا مزيد من الهزائم، .. الخسارات جولات متلاحقة يلحقها بنا عدونا اليوم، وقد ألحقناها به فيما مضى، ولكن الحرب سجال، لن نستسلم، وسنجد ألف طريقة للثورة من جديد، وألف طريق لنستمر بكل العزيمة التي خلقها الله في نفوسنا، قد يسقط الوطن من أيدينا مراتٍ عديدة، قد نتخلى عن أرض، ونحتمل وزر الدماء، ونحتفظ بملايين الصور للذين نحبهم، الذين ماتوا وسيموتون على هذا الطريق، ربما يدركنا الموت نحن أيضاً، لكن الأوطان المسلوبة ليست جديرة بالحياة، لا بدّ أن نستعيد الحرية، وألا تهدأ الأرض تحت أقدام الظالمين حتى نخرجهم منها أذلة صاغرين.
كل ما يحدث رغم قسوته لن يغير من الحق شيئا، سيبقى الحق، وسنبقى وقوده الذي يشتعل حتى نسترده كاملاً، ونثأر لكل ضحايانا، ثأراً كاملاً لا عفو فيه ولا غفران ولا بقية رحمة، علينا أن نُحسن القصاص والثأر .. لسنا آلهة لنتفضل بالمغفرة على أحد.
الغوطة ليست أولى المدائن العظيمة، وليست آخرها …، في الغوطة رجال يعرفون ما يفعلون، لا نطلب منهم صموداً، ولا استسلاماً، وإنما نطلب إليهم أن يحفظوا الثأر فحسب، وأن يتركوا هذه المعركة مشتعلة قدر ما يستطيعون، وأن يُعظّموا الحقد والأمل، وأن يقتلوا اليأس مهما كانت نتيجة هذه الجولة، فمعركتنا لا تنتهي مرة واحدة، وإنما تمتد حتى نستعيد الحق كاملاً، والحرية كاملة.
المدير العام | أحمد وديع العبسي