جاد الغيث |
اسمي وسام، عمري خمس سنوات، أعيش في مدينة (أعزاز)، هذا العام صُمت عشرة أيام من شهر رمضان، جدي يحبني جدًا، وقد وعدني أن يشتري لي ألعابًا وملابس جديدة، لأني صمت وحفظت سورة النبأ، وحافظت على الصلاة، البارحة ذهبت مع جدي إلى صلاة التراويح، وصليت عشرين ركعة، لم أتعب ولم أتحرك كثيرًا أثناء الصلاة، لكن اليوم لم نذهب إلى الصلاة في الجامع، صلينا في البيت وانطلقنا نحو السوق.
في الطريق كانت الأضواء تُدخل البهجة إلى قلوب الناس، أولاد برفقة أهلهم يشترون حلويات وملابس، ومن بعيد رأيت ثلاثة رجال ينصبون المراجيح وينفخون بالونات ملونة كبيرة ويعطونها للأولاد الصغار، أحد الأطفال ترك البالون من يده فطار للأعلى واختفى في عتمة الليل، أصوات الباعة الذين يقفون أمام عرباتهم المتجولة تختلط بأصوات المنشدين وهم ينشدون: “فودعوه، ثم قولوا له، يا شهرنا هذا عليك السلام” كم تعجبني هذه الكلمات وكم أحبها! كل عام أسمعها في أواخر أيام شهر رمضان، رحت أردد: “فودعوا شهر الصيام…” وجَدي يشد على يدي وينشد معي.
العيد بعد غد، ولكن جدي حزين هذا العيد، لقد استشهد زوج عمتي قبل عشرة أيام، عمتي تعيش مع وزوجها في ريف حلب الغربي ببلدة (كفر حلب)، كنا سنذهب بالعيد إلى هناك، ولكن عمتي جاءت إلينا مع طفليها، طوال الوقت يسمع جدي أخبار قصف الطيران الحربي الروسي على مناطق خفض التصعيد، في كل يوم تُدمر الأسواق والمنازل، ويزيد عدد الشهداء والجرحى والنازحين، خيام جديدة تُنصب بالعراء، ومازال بعض النازحين ينامون تحت أشجار الزيتون!
يبكي جدي ويدعو على الظالمين، وأنا أشاهد عبر جوال أبي صورًا لبيوت مهدمة وأطفال ماتوا تحت الأنقاض، نحن هنا في منطقة تسمى (درع الفرات) لا تقصفنا الطائرات، ولا يوجد عندنا شهداء.
كنت أريد أن أعرف بماذا يشعر الشهيد، ولماذا يُحب الناس أن يموتوا شهداء؟!
فجأة دوى صوت قوي، صوت مخيف جدًا، ارتعد قلبي فزعًا، تكسر زجاج المحلات، وتطايرت الملابس، كان هناك طفل يحمل كيس طحين وأمه تمسك بيده، سقطت أمه أرضًا وسال دمها على الطحين، كانت الأم تنوي أن تصنع كعك العيد، ولكن دمها اختلط بالطحين واختلط العيد بدم خمسين مصابًا وعشرين شهيدًا.
الطفل يبكي بجوار جسد أمه، والناس حولي في ذهول، يركضون في كل اتجاه يحاولون إسعاف المصابين، دوي سيارة إسعاف قادم، قال أحدهم: “إن أبي صار شهيدًا” كان أبي يمشي وراءنا برفقة أمي، حملوا أمي لسيارة الإسعاف، رجال لا أعرفهم حملوا جسد أبي، أمَّا أنا فكنت أظن أنني مصاب في ساقي، كنت أريد أن أبكي، أن أصرخ، ولكن لم أفعل أي شيء!!
التزمت الصمت، أغمضت عيني، وراح دمي يسيل على ثياب جدي، تركت ألعاب العيد لمن يريدها، لم أشترِ ملابس جديدة، لم أعد بحاجة إليها، لقد صرت شهيدًا!!
لا أملك كلمات تصف لكم حالي، فأنا مازلت صغيرًا، روحي ترفرف عاليًا، أطير نحو نجم بعيد، ولكن جدي يضمني إليه، ضمة وداع بلا دموع ولا كلمات، جلس جدي على الرصيف مذهولاً، الناس حولنا لكل امرئ منهم شأن يغنيه، أحدهم يحمل كاميرا التقط لي صورة وأنا في حضن جدي، كنت أريد أن أصرخ، دعني يا جدي
دعني أرجوك، أنا أريد أن أطير إلى ربي، لكن لساني يعجز عن الكلام، وجسدي كقطعة إسفنج أبيض، جسدي في حضن جدي، وروحي تصعد إلى حضن ربي!!
وأصوات حولي صارت بعيدة لم أعد أميزها أو أعرف معناها، يتلاشى عالم الأرض المؤلم الدامي من أمام عيني، أفتح عينا روحي على عالم هادئ لا ضجيج فيه ولا صراخ، هدوء مريح، ووجوه ضاحكة مستبشرة، ووجوه لشهداء لا أعرفهم، رحت أبحث بينهم عن وجه أبي.