جاد الغيث |
قبل شهرين في أريحا الجميلة، وأنا أبحث عن دار للإيجار مع أحد الأصدقاء، جمعني لقاء عابر بأشخاص لا أعرفهم، جلسنا على كراسي خشبية قديمة مصطفة بانتظام على رصيف لشارع رئيس، وبالقرب منا نافورة صغيرة تحيط بها أحواض بلاستيكية ملونة زُرع فيها الريحان وبعض أنواع الزهور الأخرى.
لم يستغرق اللقاء الكثير من الوقت بالكاد هي عشر دقائق أو أكثر قليلا، ولا أدري لماذا يخطر ببالي بين حين وآخر ذلك الرجل المبتسم الوسيم الذي مرَّ بنا، كان يحمل في يده اليمنى كيسًا أبيض اللون فيه قطعة ثلج، وفي اليد الأخرى كيسًا أسود اللون لم أعرف ماذا فيه.
استراح الرجل قليلاً على كرسي بجوارنا، وحين أراد شرب الماء، لاحظت أن يده كانت ترتجف وهي تحمل الكأس البلاستيكي الصغير، كنت أتحدث عن غلاء إيجارات البيوت، ولمجرد أن عرف الرجل من لهجتي بأنني ابن حلب، وقبل أن أعرف اسمه راح يمتدح المدينة وأهلها ويستعيد شريطًا سريعًا لحياة عاشها هناك على مدار خمسة عشر عامًا ما بين حي الجديدة وحي التلل، الرجل من أهل أريحا لكنه يعشق حلب.
بدا وجهه طافحًا بالسرور وهو يتحدث إلينا عن ذكرياته، قدرت عمره قريبًا من الأربعين، ومن يديه المرتجفتين كان واضحًا أن لديه وجعًا يُخفيه أصابه يومًا ما وماتزال آثاره مستمرة حتى اللحظة.
سألته فيما إذا كان لديه دار للإيجار،
فهز رأسه بأسى ومضى يكلمني عن بيته الواسع الجميل المطل على أجمل مشهد لأريحا وما حولها، ولكن جيش الأسد سرق جميع محتويات البيت وحطم أبوابه ونوافذه.
كثيرًا ما كنت أتورع عن السؤال في أيام الثورة، عن أي شيء إلا في حال الضرورة، فغالبًا ما ينكىء السؤال جرحًا مخفيًا،
وهذا ما جرى حقًا مع هذا الرجل الذي لم أعرف اسمه بعد، فقد استرسل في حديث مختصر مفيد حتى وصل إلى نقطة الألم.
ففي صباح أحد الأيام أراد أن يتفقد بيته الفاخر الذي وقع تحت سيطرة جنود نظام الأسد، كان متفائلاً بأن يسمحوا له بالدخول إلى منزله وأخذ بعض الأشياء التي يحتاجها، لكن للأسف خاب ظنه، وعاد مضرجًا بالدماء بعد أن تلقى ضربات مؤلمة على وجهه وصدره، وشتائم يخجل صاحب الحياء من ذكرها، ومن ثم كان عليه أن يزحف على يديه ورجليه كالكلب تمامًا، (هكذا قالها لي) وكل ذلك كان على مرأى من زوجته وابنته الوحيدة التي لم يتجاوز عمرها خمسة عشر عامًا.
مكث الرجل يومين في المشفى، وتركت الحادثة الأليمة بصمة قهر في روحه المتعبة وتركت له يدين مرتجفتين، فصار مريضًا بداء باركنسون حتى الآن.
سرق جيش النظام جميع البيوت التي سيطر عليها في أريحا وغيرها من مدن سورية كثيرة، خرَّب الممتلكات وكتب على الجدران
(الأسد أو نحرق البلد)، وترك في نفوس الناس الغصة والألم.
كانت قطعة الثلج في الكيس الأبيض تقطر قطرة وراء قطرة، على طرف النافورة القريبة منَّا، حيث وضعها الرجل هناك، تخيلتها قطرات دمائنا النازفة منذ أكثر من تسع سنوات، وماتزال تقطر قطرة وراء قطرة.
حمل الرجل كيسه الأبيض وقطعة الثلج تقطر شيئًا تخيلته أحمر اللون، أما الكيس الأسود فأظنه كان يحتوي على أدوية متعددة ظهر من بينها عبوة بلاستيكية تحوي كحولاً طبيًا، عبوة الكحول كأنها تجيب عن فضولي بمعرفة محتويات الكيس الأسود فمدت رأسها لأميزها بوضوح.
حكاية الرجل الذي ما زال وسيمًا، حكاية موجعة تشبه ملايين قصص الوجع والقهر والثبات والنجاح، وتؤكِّد لنا في الوقت نفسه حقيقة النظام المجرم في حرق البلد وأهله مقابل بقاء الأسد.
في النهاية عرفت لقبه وهو يودعنا، حيث ناداه أحد الموجودين بـ: (أبو فاضل) تبعته بنظراتي داعيًا له بالخير حتى غاب عني في شارع ضيق يملؤه الركام.