سلوى عبدالرحمن |
يُقال: “وقت الكباب سكروا الباب، ووقت المجدرة نادوا للمعترة” و” الحكي إلك يا جارة واسمعي يا كنة” و”الأصيل أصيل ولو حظو على قدو، وابن النعمة مبين ولو الزمن هدو” .. أمثالٌ شعبية سورية لا تُعد ولا تُحصى تتسلل في أحاديث السوريين فيستحضرونها في الوقت المناسب دونما تفكير لأنهم حفظوها عن ظهر قلب، فينوعون خطابهم فيها بتنوع المكان والزمان والأشخاص والظروف، ما ميزهم عن غيرهم من الشعوب.
الأمثال هي تدوين تجارب الماضي واستشراف المستقبل باختصار، فهي حالة حضارية وثقافة شفهية لم تعرف طريق الاندثار، بل على العكس ظلت منارة رغم ما فيها أحياناً من مغالطات منطقية للأجيال، ما جعلها ورابطة قوية بين الأمس واليوم بعقد اجتماعي إنساني فريد.
ولعل الميزة التي غلّفت كلمات الأمثال بشقيها العامي والفصيح قدرتها على محاكاة الواقع الإنساني العربي بكل ما فيه من تحديات سياسية واجتماعية فضلاً عن الهم الأكبر لشرائح الناس العريضة والمتمثل بيومياتهم إيجابًا أو سلباً، حتى صبغتها به بمزيج من الفكاهة التي تعتبر تفريجًا عن الأفئدة المتعبة بالذات.
في التجربة السورية تحديداً يمكننا تذكر بعض الأمثلة التي تحاكي الواقع ويمكن إسقاطها عليه بسهولة، فكانت بداية الثورة كما قال البعض “أول الرقص حنجلة” واللي ما داق المغراية ما بيعرف شو الحكاية”، فالجدات غالباً ما يصفن السياسيين السوريين المعارضين كمن “عادوا بخفي حنين” وأيضًا، وقت تهجير ونزوح السوريين قلنَ “اللي بيطلع من دارو بيقل مقدارو” و “لا تكتر روحاتك عند أمك وأبوك بيكرهوك” في حين استقبلهم أهالي الشمال السوري بالمثل “بيت الضيق بيسع ألف صديق” مع إمكانية إسقاط تلك الأمثال على بعض شؤون الحياة اليومية بسهولة.
الأمثال الشعبية إرث فكري تداوله السوريون عن أسلافهم باعتبارها مختصرات موجزة خفيفة لا تخلو في الغالب من الطرافة؛ ما أكسبها استمراريتها وديمومتها كلما تقادم الزمن دون أن تصاب بتحريف إلا اللهم نطقها باللهجة العامية أو المحكية، ويتغير المكان دون شك ومصطلحاته المعروفة، فكل ذلك يفسر إمكانية تطويع تلك المقولات أو الأمثال الشعبية وفق تلك اللهجات المختلفة والمتنوعة، ما أسهم في انتشارها وعدم اندثارها، بل أصبحت محطة تلاقح فكري وإثراء ثقافي لدى الشعوب في الشرق الأوسط.
“أهل أول ما تركوا شي ما قالوه” حتى المرأة السورية ظهرت في الأمثال الشعبية بصور متنوعة سواء كانت أمًا أو بنتًا أو كنةً أو جارة.. فأنصفتها بعض الأمثال وأخرى جعلت منها مجالًا للسخرية والاستهزاء كما صورتها الدراما السورية في دوائر الكيد والتحايل، وبالمقابل سيادة الذكور على مجالات الحياة المهمة كما في “باب الحارة” الذي صور المرأة السورية بأسوأ حالاتها، فكانت نمامة “بالوش مراية وبالقفا حرباية” و “همّ البنات للمات” و “كل قمحة مسوسة والها معيار” والمثل الأخير يُقال للبنت البشعة حين تتزوج، و “مين فضح بيت الأمير؟ الكنة والأجير” و “قالت لها يا جارة اسكبيلي.. ردت لها بكفوفي ولا بصحونك اللي على رفوفي”..
في المحصلة، خلود تلك الكلمات التي انتقلت من إطارها العربي الرصين إلى ألسنة الشعوب، يرجع فضله إلى تنوع طرحها وقوة حضورها بين أفراد المجتمع عامة، سياسيًا وثقافياً وشعبيًا، بل وحتى أدبيًا وعسكرياً، بحيث بقيت صالحة لكل مكان وزمان، باعتبارها نتاج “عصارة فكرية” لتجارب حقيقية تؤكد بأن التاريخ وإن لم تتكرر أشخاصه لكنه يعيد نفسه، كما علمّنا أحد رواد علم التاريخ في جامعة دمشق قبل خمسة عشر عامًا “إننا أمام طرق أبواب الحياة من خلال نوافذ الأمس” حيث تمتزج الحكمة والحس الفكاهي في معالجة الواقع، عبر رميها بسهام تجارب الأجداد، حتى وإن ثبت “أن الإنسان ما بيتعلم إلا من كيسو” أي لا يتعلم إلا من تجربته، لكن المحظوظ من اعتبر بقصص غيره، ولهذا ضرب الله تعالى الأمثال في القرآن.